د. ياسر علوي يكتب: تلابيب البهجة والأمل.. رواية "جبل الزمرد" لمنصورة عز الدين

(1)

أتممت اليوم قراءة هذه الرواية الفذة، الممتلئة أصالة وجمالا وحكمة.. حكاية سحرية وساحرة تشتبك مع عالم ألف ليلة وليلة الرائع بطريقة غير تقليدية، بل وأكاد أقول إنها طريقة فريدة وغير مسبوقة في تاريخ الأدب المصري الحديث.. كيف؟

(2)

تقليديا، كان استلهام ألف ليلة وليلة، أو كتب الأساطير والأخبار والِملَح والنوادر في تراثنا العربي بشكل عام (مثل: منطق الطير، الأغاني، البخلاء، السير العربية وحواديت الشطار والعيارين كعلي الزيبق وعمر العيار وحمزة البهلوان… إلخ) في الأدب المصري الحديث، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يتم بواحدة من طرق ثلاث:

أ- طريقة إعادة قص روايات ألف ليلة وليلة في قالب سردي حديث.. تحتفظ هذه الطريقة بالخطوط العامة للقصة التراثية (بدايتها ونهايتها وأهم أحداثها)، لكنها تتلاعب في أسلوب السرد ولغة القص، سواء بغرض تقريب القصة التراثية من القارئ العصري الذي قد تستعصي عليه اللغة التراثية والألفاظ غير المطروقة، أو – وهو الأغلب- لاستخلاص مغزى معاصر من الأسطورة القديمة.. أجمل من استخدم هذه الطريقة – في نظري- هو أديبنا العظيم ألفريد فرج، خاصة في عمليه البديعين \”أيام وليالي السندباد\” و\”تقاسيم على أوتار عربية\”.

ب- طريقة كتابة نصوص تستلهم الخط العام لإحدى الأساطير القديمة، لكنها تختلق تفاصيل وشخصيات جديدة بغية نقاش مسائل فلسفية أو الاشتباك مع أسئلة واقع معاصر يتقاطع في أحداثه أو عبره مع العناصر الأساسية للأسطورة، وأشهر من فعل ذلك في أدبنا المصري الحديث كان توفيق الحكيم في مسرحيات مثل \”أشعب\” و\”سليمان الحكيم\” و\”أهل الكهف\” وغيرها، كما فعل ذلك أيضا ألفريد فرج، وهو بالمناسبة واحد من أكثر المفتونين بأدب الأسطورة عند العرب، في عمله العذب \”رسائل قاضي إشبيلية\”.. تجد ذلك أيضا في محاولات فاروق خورشيد لإعادة سرد أسطورة علي الزيبق المصري، وهكذا.

ج- طريقة كتابة نصوص مصاغة في قالب أسطوري يشبه – من حيث الشكل، وبعض الحيل السردية، كاستعارة صوت شهرزاد راوية ألف ليلة وليلة– ما احتوته كتب الأساطير والأخبار والنوادر، لكن هذه النصوص تكون مبتدعة بالكامل، فهي لا تعيد صياغة أسطورة تقليدية، وإنما تنشئ عملا جديدة لا أصل له في التراث، وإن تشابه في الشكل وبعض حيل السرد مع الروايات التراثية.

تجد ذلك مثلا في عمل نجيب محفوظ الرائع ليالي ألف ليلة، أو عند توفيق الحكيم في \”السلطان الحائر\”، وتجده أيضا عند ألفريد فرج في \”علي جناح التبريزي\”، وبعض المسرحيات التي كتبها يسري الجندي على نفس المنوال، كما تلاحظها أيضا في التجربة الفريدة التي قام بها العبقري فؤاد حداد في ابتداع شخصية خيالية لشاعرة من العصر المملوكي وكتابة ديوان كامل بقلم هذه الشاعرة المتخيلة، وهو \”ديوان أم نبات\”!

النص المزدوج: حيلة جديدة لمغازلة ألف ليلة وليلة

(3)

منصورة عز الدين، التي يبدو واضحا تماما من نصها أنها هضمت كل هذه الأشكال الأدبية، قررت بجرأة وثقة تحسب لها، أن تفارق هذه الأنماط المطروقة في التعامل مع النص التراثي، لتخوض في روايتها الرائعة \”جبل الزمرد\” مغامرة سردية فريدة، فالصيغة الجديدة التي ابتدعتها هذه الأديبة الموهوبة تقوم على المراوحة الممتعة والمشوقة بين نصين متوازيين، يجري أحدهما في زمن أسطوري متخيل، وفي مكان سحري هو \”جبل قاف\”.. الواقع في آخر العالم.. أرضه من زمرد، وحدوده أربعون أرضا من ذهب وفضة وياقوت. أما النص الثاني، فيجري في عالمنا المعاصر (عام2011، في القاهرة المحروسة، التي تضج بآلام الثورة وأحلامها وإحباطاتها.

(4)

لكن هذين النصين المتوازيين متضافران بشكل مذهل، في رواية شديدة الإحكام وبلغة بالغة الثراء والشاعرية، تتحرك على عدة مستويات، فتكون الأقسام المكتوبة في الزمن الأسطوري (زمن \”الحكاية الناقصة\” – بحسب الرواية- من كتاب ألف ليلة وليلة) متمايزة جذريا في لغتها وصياغتها عن الأقسام المكتوبة في العصر الحديث، والتي تتمايز لغتها بدورها بين الأقسام التي ترويها \”الراوية المتألهة\” بستان البحر، سليلة سكان جبل قاف وحاملة أمانة استعادة الجبل المخفي بلعنة لا يفكها إلا استخلاص قصته الحقيقية بين ركام الأساطير المزيفة والمرويات المنقوصة، والأقسام التقريرية التي تتناول حياة البطلة هدير وجدتها المناضلة العجوز شرويت على هامش أحداث الثورة، التي تمثل خلفية للأحداث ولا تحتل الصدارة، بحيث يكون الواقع هو خلفية الأسطورة!

(5)

وبشكل عام، يمكن القول إن كل رواية في الدنيا هي \”تاريخ متخيل\”، يروي تفاصيل عالم أبدعه راويها في مخيلته، متأثرا في إبداعه هذا بالزمان والمكان الذي يعيشه. لهذا لا تكون الرواية الجيدة أبدا مرآة فجة \”للتاريخ المعاش\”، وإنما اشتباك ماكر ومخاتل مع هذا التاريخ الذي يعيشه مبدعها، عبر ابتكار \”تاريخ متخيل\” هو زمن الرواية ومادتها.

وهنا بالذات، في هذا الاشتباك الدائم بين وقائع \”التاريخ المتخيل\” – كما تحكيه الرواية – وهموم \”التاريخ المعاش\” – كما خبره مبدعها- يكمن سحر الرواية، وتكمن متعة قراءتها، ليس فقط من خلال بهجة التلصص على \”التاريخ المتخيل\” للرواية واستكشاف عالمها الموازي لواقعنا، وإنما أيضا من خلال الباب السحري الذي يتيحه لنا هذا العالم الخيالي لفهم أرحب، ورؤية أعمق لتاريخنا المعاش وهمومنا الخاصة. فـ\”الجرح إنساني\” كما أنشد شاعرنا العملاق فؤاد حداد، وتفاصيل وحكايات العالم المتخيل في الرواية العظيمة هي مدخل حقيقي لإضفاء المعنى على \”عالمنا المعاش\” وجراحه وآماله وآلامه.

(6)

رواية \”جبل الزمرد\” رواية جسورة، تدرك ببصيرة ثاقبة، أن بابنا للحكمة والفهم والتعاطف، هو في هذا الاشتباك بين التاريخ المتخيل والتاريخ المعاش، وتعكس ذلك بسلاسة وتشويق مدهشين لا يرهقان القارئ ولا يفقدانه شهيته لتقليب الصفحات والانغماس أكثر في عالم الرواية الساحر، وذلك باستخدام حيلة أدبية رائعة، هي أن يكون الواقع المعاش في الرواية (القاهرة الثائرة في عام 2011 وبعده مباشرة)، هو مجرد خلفية للعالم الأسطوري والغرائبي (وليس العكس كما هو شائع، فالأسطورة هي الحدث الرئيسي، والواقع مجرد هامش على متنها)!

هكذا، تكون حياة البطلة هدير في القاهرة الثائرة، وهمومها مع أهلها، وسفرتها القصيرة خارج مصر، ومغامرتها الخاطفة مع \”الدون جوان\” العجوز كريم خان، مجرد محطات على طريقها لبعث الأسطورة واستعادة الحكاية الأصلية \”لزمردة\”، التي بها فقط يمكن استعادة جنة \”جبل قاف\” وفك لعنته، واستكمال الحلقة الناقصة من كتاب ألف ليلة وليلة.

الواقع هنا خادم للأسطورة، والأسطورة هي الحكاية الضائعة التي إن استعدناها أحيينا العالم السحري الغائب، لكن شيئا ما طوال الرواية يذكرك بأن الأسطورة ليست نبتا ظهر في واقع بور، وإنما هي تقطير لحكمة هذا الواقع بعد نزع الشوائب التي تعمي البصائر عنها، وأن العلاقة بينهما علاقة إضاءة متبادلة.

واقع يسعى لاستعادة الأسطورة التي تضيء واقعا بدورها.. تقرأ هذه الرواية فتسمع صوت المتصوف القطب الإمام النفري \”إنما أحدثك فترى.. فإذا رأيت فلا حديث\”. استعادة الحكاية الضائعة، حديث الرواية الصحيحة المستخلصة بين ركام التزييف، هو الباب لرؤية العالم وتحقق الحلم (فيصير المطر زمردا لا تراه إلا عين الرائي العارف، بينما يراه الغافل مطرا كسائر المطر)

اللغة المبهرة

(7)

اللغة هي المادة الخام لأي رواية. واللغة الشاعرية التي تقطر جمالا وحكمة هي من أهم سمات هذه الرواية الرائعة، التي تقوم بتجربة شديدة الجمال.

تتمثل هذه التجربة في استعاضة الرواية عن حيلة سردية شائعة يستخدمها المؤلفون عادة لإثراء النص والاحتفاظ باهتمام وانجذاب القارئ، هي تعدد أصوات السرد أو تعدد الرواة، بتعدد مستويات اللغة المستخدمة (رغم كون الرواية تتم في أغلبها بصوت راوية واحدة، هي \”بستان البحر\” القادمة من عالم قلعة الموت – المقر الأسطوري للعيار الأشهر حسن الصباح وفرقة الحشاشين- والحاملة لأمانة استعادة الحكاية الضائعة)

(8)

هذا التنوع في مستويات اللغة (بين لغة الزمن الأسطوري في أرض المغناطيس وعوالم الرحالة المغامرين وطائر الرخ والعنقاء وسيدة الحيات، الحارسة الأمينة على جبل قاف، ولغة الواقع المعاش في قاهرة المعز في القرن الحادي والعشرين) ينتج تعددا في مستويات الدلالة، بحيث تستطيع أن تقرأ أشياء عديدة في هذا النص ذي الدلالة المفتوحة.. متعة تفوق الوصف، وعبارات لا تنسى.. تراوح برشاقة ومكر بين الأسطورة والواقع، فيدوخ القارئ بين إضاءات الأسطورة على الواقع، وكشف الواقع لمغزى الأسطورة.

هكذا، تقرأ في الرواية أن \”من يحرق الأميرة يتمكن وحده من استعادتها، ومن يزلزل الجبل يقدر دون غيره على بعث أميرته مرة أخرى\”، أو تسمع مثلا صرخة الأميرة المحذرة من الروايات المزيفة التي تحاول إغراق الحقيقة وتحريف الذاكرة \”وحدها الحكاية ستعيدني\”، فيخطر ببالك أنك بدأت تفهم لماذا كانت القاهرة التي \”تتزلزل بثورتها\” هي المكان الذي \”دلت العلامات والنبوءات أنها ستكون محطة بستان البحر الأخيرة، التي ستجد فيها ما تبحث عنه\”، ويغريك النص أن تستمد، حسب تعبير الرواية، \”الرؤية من الكلمات التي رصفت لتكوين أحجية تخبئ بداخلها السر بينما تتظاهر بكشفه\”

(9)

والحقيقة أنه بالنسبة لي فإن العبارات التي تتذكرها من النص الروائي، والتي تمثل مفتاحا لك ليس فقط لفهم العمل الأدبي وإنما لرؤية الواقع والدنيا والوجود الإنساني كله، واحدة من أهم معاييري الخاصة جدا في حب أي عمل أدبي.. لا أستطيع أن أحب عملا أدبيا لا أستطيع أن أتذكر عددا لا يستهان به من عباراته، وبهذا المعنى، فإن رواية \”جبل الزمرد\” لا تخيب ظن قارئها أبدا.

(10)

على مستوى اللون الأدبي، الرواية تنتمي لصيغة خاصة جدا من \”الواقعية السحرية\”.. هي \”واقعية سحرية\” غير مستوردة (أي ليست مصاغة على القالب اللاتيني الشهير الذي ابتدع هذا اللون الأدبي)، وإنما واقعية سحرية مفرطة في المحلية، تشعرك أن الكاتبة الموهوبة هضمت واستوعبت أعمال الواقعية السحرية، وكتب التراث العربي، بل والأساطير العالمية (مثال: أسطورة رابونزل للأخوين جريم)، وأن هذا التراث الأدبي موجود في \”عظامها\”.. استوعبته وهضمته واستطاعت أن تبدع منه أدبا أصيلا يحمل بصمتها الخاصة، وليس مجرد محفوظات تراثية وأدبية \”على طرف لسانها\” تستنسخها مما رواه الآخرون.. نحن إزاء عمل يضج بالأصالة والإبداع.

(11)

لسبب ما، هذا النص (الصادر قبل ثلاث سنوات) هو العمل الروائي الأول الذي أقرأه لمنصورة عز الدين، فقد اقتنيت عبر السنوات كل أعمالها الروائية بناء على نصيحة أصدقاء أثق في ذائقتهم الأدبية، لكنها بقيت في المكتبة ضمن باب \”القراءات المؤجلة\”، الذي يتسع بسرعة تفوق قدرتي على ملاحقته (وكل مدمن لشراء وقراءة الكتب، يعرف متعة ومعاناة \”اقتناء الكتب\” بمعدل أسرع من القدرة على قراءتها، ويعرف أن بهجة اقتناء الكتاب تكاد تماثل متعة قراءته.

(12)

لكن بمجرد قراءة هذا النص، انفتحت شهيتي تماما لقراءة سائر أعمالها والتعرف على عالمها الروائي الساحر.. أنصح بشدة بقراءة هذا العمل.. واتطلع لقراءة سائر أعمال هذه المبدعة الاستثنائية التي أوقعتني رواية \”جبل الزمرد\” في غرام عالمها الروائي الثري.. خزان المبدعين لا ينضب في مصر المحروسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top