لو أنك تعرضت لتفجير ونجوت منه دون حدوث أَذًى جسدي لك، فإنك حتما ستعاني بعض الآثار النفسية؛ ربما ستشعر بالخوف والقلق وبعض الأعراض الجسدية مثل تسارع دقات القلب والعرق والرعشة، وربما يصيبك اضطراب في النوم وبعض الانقباض العام والخوف من المرور بمكان التفجير مرة أخرى، وإذا كنت ضمن مجموعة من مائة شخص تعرضوا لهذا التفجير، فمن المحتمل أن تتطور تلك الأعراض معك لتصبح ضمن الثمانية أشخاص من المائة الذين سوف يعانون من اضطراب نفسي اسمه اضطراب الكرب (Post Traumatic Stress Disorder). وقد تمتد المعاناة لأسابيع وربما شهور أو سنين وربما احتجت إلى علاج نفسي ودوائي لفترة طويلة من الزمن.
أما إذا كنت محظوظا فربما تتلاشى تلك الأعراض تدريجيا لتكون ضمن الـ ٩٢ غير المكروبين والذين سيتعافون تماما، وهؤلاء نسميهم \”المرنون\” أي من يمتلكون المرونة النفسية الكافية لمقاومة الصدمات.
والمرنون هم الأشخاص الذين لديهم من المرونة النفسية ما يكفيهم للمرور بتجربة خطرة أو ضاغطة نفسيا دون أن يتحولوا إلى مكروبين أو مرضى نفسيين، بل إنهم قد يزدادون خبرة أو مرونة بعد تلك التجربة.
كمصريين أو كشرق أوسطيين نعيش زمنا مرهقا وغير مستقر ويصعب توقع مآلاته، ويعاني الكثيرون منا الإحباط والخوف والعزلة فضلا عن عدم الوضوح والاضطهاد الاجتماعي والسياسي والديني، مما يهدد بإصابة الكثيرين بالمشاكل النفسية وتفاقم أوضاعهم ويزيد من الحاجة إلى معرفة كيف نكون من (المرنون).
قامت العالمتان إمي ورنر وروث سميث (( Emmy Werner , Ruth Smith بدراسة تتبعية لـ ٧٠٠ طفل في إحدى جزر هاواي يعيشون في ظروف شديدة القسوة والفقر والاضطراب لمعرفة مصائرهم على مدار ٣٠ سنة ونشرتا بحثهما العام ١٩٨٢ واكتشفتا أن ثلث الأطفال نجحوا في تجاوز ظروفهم المضطربة بحلول مرحلة المراهقة، وأن نصف الباقين نجحوا في الوصول إلى حياة طبيعية بحلول عمر الثلاثين، وذلك بعد فترات كرب ونكبات متعددة.
تعتقد ورنر وسميث أننا جميعا نولد ومعنا مرونتنا النفسية (resilience) أي أننا جميعا نولد ونحن من \”المرنون\”، ثم تأتي عوامل مختلفة لتقوي تلك المرونة أو تضعفها، وأن هناك عوامل فردية وأخرى داخل الأسرة وثالثة في المجتمع المحيط تساعد أو تضعف من المرونة، فمثلا تحكي إحدى الفتيات التي كانت تعيش في بيت لأب مدمن وأم مريضة وجو أسري مليء بالعنف، أن ما ساعدها أنها بينما كانت تشتري الخبز كل يوم صباحا يدعوها صاحب كشك الخبز لتشرب معه كوب شيكولاتة ساخنة، بينما هي تحكي له عن مأساتها وهو يواسيها.
شّكل ذلك اللقاء اليومي محور استقرار نفسي وقيمي للفتاة الصغيرة ساعدها على الاستمرار، وأحيانا وجدوا أن وجود أخت كبرى متزنة في الأسرة كان له نفس الأهمية.
انطلاقا من هنا، اهتم العلماء بدراسة العوامل التي تساعد الأطفال على تجاوز ظروفهم المعاكسة والوصول إلى حياة صحية، وقد وجد أن العوامل الرئيسية لتقوية المرونة لدى الأطفال هي ستة (Resilience Wheel) وهي: منح الرعاية والاهتمام، وضع وتوصيل توقعات عالية، واتاحة الفرصة للمشاركة الفعالة، وزيادة الروابط المجتمعية، ووضع حدود واضحة، وأخيرا تعلم مهارات الحياة، وانطلاقا من هذه العوامل قام علماء التربية بتطوير برامج لتقوية المرونة النفسية للأطفال في المدارس، وخصوصا الأطفال الذين يعانون من ظروف معاكسة، وذلك لمواجهة المسارات غير الصحية لهؤلاء الأطفال مثل التهرب من المدرسة وتعاطي المخدرات وحمل المراهقات والممارسات الجنسية غير الآمنة، وتم عمل برامج لتنفيذ ذلك في المدارس من أهمها برامج الأخ الأكبر، وهي تقوم على عمل نوع من الرفقة أو الأخوة بين طلبة كبار تم تدريبهم سابقا وطلبة أصغر يلتقون فيها بشكل منظم أسبوعيا ويتواصلون بالتليفون ويخرجون سويا، وقد أظهرت برامج الأخ الأكبر نتائج أكبر مما سواها من برامج المرونة وإن كانت باقي البرامج مازالت تعمل أيضا مثل برامج تنمية مهارات الحياة ورحلات الاستكشاف البري والبحري وبرامج التوعية العامة.
تنوعت بعد ذلك وتشعبت وانطلقت أبحاث المرونة النفسية من مجرد البحث في مرونة الأطفال إلى مرونة الراشدين، وتساءل الباحثون كيف يواجه الراشدون الأزمات وكيف يساعدون أنفسهم، وكيف ولماذا يتجاوزونها؟! ثم…. امتدت الأبحاث إلى المرضى، وخصوصا أصحاب الأمراض الصعبة والمزمنة كالسكر والإيدز والأورام السرطانية، وبحثت في مرونة كبار السن والمعاقين والأقليات والمهاجرين واللاجئين والأمهات الوحيدات والمدمنين وضحايا العنف وضحايا الاغتصاب، وكذلك عمال الإغاثة ورجال البوليس ورجال المطافئ والعائدين من جبهات القتال، كل هؤلاء تم تصميم برامج مرونة متخصصة لهم تساعدهم على تجاوز الأخطار والضغوط التي يواجهونها.
إذن نحن جميعا بني الإنسان من المرنين، وما نحتاجة هو اكتشاف مكونات مرونتنا الخاصة والعمل عليها والإضافة إليها؛ المكون الأول هو الانتماء إلى جماعة بشرية تشعرك بوجود.. هوية قوية، وحماية كما تقول إحدى اللاجئات الإثيوبيات التي هربت من بلدها وجاءت إلى مصر مشيا على الأقدام وتعرضت للاغتصاب أكثر من مرة أثناء رحلة هروبها: \”ما قتلت نفسي عشان لقيت ناس إثيوبيين لوني وبيتكلموا زيي في القاهرة وقفوا جنبي\”.
يلي ذلك الشعور بالقيمة والأهمية الشخصية والقدرة على تقديم المساعدة للآخرين وتوقع ردة الفعل الإيجابية لهذه المساعدة، حتى لو كنتي وحيدة في زنزانة انفرادية، ما ساعد إحدى الناشطات السوريات على السجن الانفرادي: \”هو تنظيفي وتجميلي اليومي للزنزانة التي كنت فيها على أمل أن تجدها السجينة التالية نظيفة فتفرح بذلك\”، ثم أن تكون قادرا على التعرف على مصادر الدعم والحماية حولك، والتي تشعرك بالأمان وبالقدرة على استدعاء الدعم والمساندة حين تحتاجهما: \”وجود ناس حواليا بتحبني وبتحاول تحميني هو اللي كان بيقويني\”.. تقول إحدى الناشطات السوريات.
مواجهة الأزمات الكبرى بروح إيجابية والبحث عن أوجه روحية في تلك الأزمات حتى مع مرض خطير مثل الإيدز: \”من يوم ما عرفت أني متعايش مع الإيدز، وأنا بلاقى متعتي في مساعدة اللي زيي.. بحس إن روحى بقت نقية وإن ربنا اختارني عشان كده\”
يقول أحد المتعايشين مع الإيدز، والقدرة على اكتشاف تشابهات مع الآخرين أو ما يسمى بتعميم المشكلة هو أحد الطرق التي تساهم في رفع العبء كما فعل ذلك المراهق الذكي مجهول النسب: \”لما بامشي في الشارع وبشوف الناس.. أقول مين فيهم يعرف إنه أبوه مش أبوه وإن أمه مش أمه زي ما أنا عرفت.. اللي ريحني إني اكتشفت إن الفرق اللي بيني وبينهم إن أنا عرفت وهم ما يعرفوش\”
مراهق اكتشف في عمر ١٤ سنة أنه مجهول النسب، وذلك بعد وفاة أبيه وحرمانه من الميراث، كذلك الإيمان بالنجاة \”كانوا بيقوسوا علينا والطيارة عم تقصف وآني بانزف وكنت قادرة أدير بالي ع حالي وع رفقاتي من شان الحق معي\”.. سورية مرة أخرى وأم، وهي تشير – ضاحكة – إلى آثار الإصابات على جسدها وخلف أذنها.
هناك أيضا المرح والقدرة على خلق المواقف المضحكة حتى أثناء الأزمات، وكذلك الشعور بوجود معنى للحياة ولما تقوم به من أفعال والتعرف على ما يسعدك، ووجود شبكة من العلاقات الاجتماعية الداعمة والمريحة والمبهجة، كما أن العلاقة الإيجابية بالنباتات والحيوانات أيضا من عناصر المرونة المهمة.. القدرة على التخطيط سواء طويل المدى أو قصير المدى، وكذلك القدرة على التخلي عن الأهداف التي لا جدوى من ورائها أو صعبة التحقيق، هي أيضا من عوامل المرونة.
وللجماعات مرونتهم، كما أن للأفراد مرونتهم، حيث تنتظم الكائنات الحية في مجموعات من أجل الحماية والدعم والاستمرار، وكذلك ينتظم الناس في مجموعات بينها عناصر مشتركة، ويشير الباحثون إلى أن تكون تلك التجمعات هي أهم عنصر للمرونة الجماعية والفردية، وقد تحدث بشكل تلقائي كما في المآتم والأفراح وعند الإصابة بالأمراض والأزمات المختلفة، وقد تحدث بشكل قصدي بغرض الدعم في مجموعات تسمى مجموعات الدعم، ترفع من مرونة الأفراد والمجموعات التي تقوم بإنشائها في عملية اسميها امتلاك المرونة النفسية.
ومجموعات الدعم تلك تنتشر في العالم الآن، وخصوصا بين المجموعات البشرية التي تتعرض لبعض أنواع الضغوط، وكما قلت يمكن أن تكون تلقائية مثل مقهى أبناء أسيوط أو جمعية أبناء الصعيد وهي تلك التجمعات التي تقدم مكانا للمجموعة البشرية تلك تلتقي فيه من أجل التواصل وأحيانا تلقي وتقديم الدعم، وأحيانا تكون بشكل قصدي ومنظم كما في مجموعات دعم المدمنين ولمرضى السكر والمطلقات واللاجئين والمتعايشين مع فيروس الإيدز وهي تقدم أماكن آمنة للالتقاء وتبادل الخبرة وتقديم المساعدة للأعضاء الجدد
تأتي أهمية المرونة في أنها تجنب الأشخاص التعرض للاضطرابات النفسية – كما رأينا سابقا- وكذلك تحمي الأشخاص من كثير من الأمراض الجسدية التي تتفاقم بتأثير الحالة النفسية وتساهم أيضا في مواجهة المشكلات وتسهيل خلق حياة أكثر راحة وأقل معاناة.
كما أن من عوامل المرونة ما لا يمكن اكتسابه مثل التأثير الجيني والحياة في بيئة فقيرة أو غير داعمة، فإن أكثر عوامل المرونة يمكن تعلمها وممارستها ليس فقط لمساعدة أنفسنا، وإنما مساعدة أحبائنا ومن يحتاجون المساعدة.. علينا أن نمارس المرونة في حياتنا العادية حتى نكون مستعدين في الظروف غير العادية لكي نستطيع ممارستها بتلقائية.