د. نبيل القط يكتب: الحب ليس تحت السيطرة

تثير العلاقات بين الرجال والنساء في مسلسل \”تحت السيطرة\” أفكارا كثيرة، إذ لا توجد علاقة حب مستقرة أو تحت سيطرة أطرافها أو أحد الطرفين على الأقل، كل العلاقات منفلتة من الاستقرار وتتحرك مبتعدة أو مقتربة من سطوة أطرافها ويسعى أطرافها إما  إلى السيطرة عليها أو إلى الهروب والانفلات من قبضتها. كما أثارت بعض العلاقات نفور البعض وإعجاب البعض الآخر في نفس الوقت، علاقة مريم المدمنة وزوجها حاتم أو علاقة سلمى زوجة المدمن النشط طارق، وأخت المدمن المتعافي شريف، علاقة هانيا المراهقة الهاربة من أمها من جهة ومحاولات أمها البائسة للسيطرة عليها، وعلاقتها بعلي صديقها وزوجها فيما بعد من جهة أخرى الذي لا يستطيع أن يسيطر على نفسه فضلا عن محاولته أو عدم محاولته السيطرة على العلاقة بـ هانيا الدلوعة والجامحة.. العلاقة  الوحيدة التي يمكن اعتبارها تسعى لتكون تحت سيطرة أطرافها هي علاقة ابنة الخالة وزوجها، الذين التقيا كأنهما شريكان في اجتماع عمل، وليس لقاء عاطفيا، فكيف نفهم تلك العلاقات من الناحية النفسية على الأقل؟

عالم النفس الأمريكي إريك بيرن صاحب نظرية التحليل النفسي التفاعلاتي، قسم حالات الوعي التي يعيشها الناس ويتناوبون عليها ويتفاعلون بها إلى ثلاث حالات رئيسية وأسماها حالات الأنا، وحالة الأنا هي جماع من طرق التفكير والشعور والسلوك تتناسق معا لتكون حالة الأنا وتنشط نتيجة التفاعل مع مثير ما، وهي على الأقل ثلاث حالات رئيسية (حالة الطفل، حالة الوالد، وحالة الراشد)؛ أما حالة الطفل فتتميز بالجموح والأنانية والحياة في اللحظة واستخدام الحدس بديلا عن المنطق والخيال بديلا عن الواقع والاندفاعية والقسوة والميل للمتعة والبهجة كهدف أولي، وحالة الوالد ترغب في فرض مجموعة من المعايير المستعارة من خلفيات أخلاقية ودينية واجتماعية ليس لها علاقة مباشرة بالواقع وربما غير منطقية والوالد يرغب في السيطرة ولا يقبل الحلول الوسط ويفكر بطريقة الصواب والخطأ والأبيض والأسود، أما الحالة الثالثة فهي حالة الأنا الراشد أو الناضج وهو الأنا التي تراعي المنطق في قرارتها وتعطي الواقع الموضوعي اعتبارا واضحا وتقبل بالحلول الوسط وتضع الخطط، واضعة في الاعتبار عناصر الواقع المتناقضة وذلك مع احتمالات الفشل والنجاح، وكل واحد منا يمر بتلك الحالات بناء على المثير الذي يحركها، فإذا لعبت مع طفل مثلا فإن حالة الطفل الضاحك المرح واللعوب تسود في تفكيرك ومشاعرك وسلوكك على باقي الحالات، وإذا مرض الطفل ذاته أو فعل ما لا يرضيك، فإن حالة الوالد هي التي تسود لكي ترعاه وتنتبه إليه أو تؤدبه، بينما في اجتماع عمل مع زميل تسود حالة الأنا الراشد، وتبعا لـ بيرن يظهر الاضطراب النفسي عندما تستبعد إحدى تلك الحالات باقي الحالات الأخرى وتسيطر على الوعي أغلب الوقت أو عندما تتلوث إحدى تلك الحالات بحالة أخرى وتعطلها عن العمل.

في المسلسل نجد مريم أنا راشدة مشوشة من حالة الطفل المكبوت الذي يرغب في الانطلاق ويخاف من العواقب، إنها قدم مع الطفل الذي يرغب في اللعب وقدم أخرى مع الراشد الذي يرغب في الاستقرار والإنجاب، وهذا التشوش قديم قدم تعاطيها للمخدرات الذي أيقظ حالة الطفل داخلها ولم يدعها إلا أنا ضعيفة قلقة مع نفسها ومع العالم، ولم تعرف معنى لوجودها بعد، وتحمل جروحها القديمة وحدها دون مشاركة أحد حتى زوجها الذي يمثل نموذجا واقعيا لحالة أنا الوالد (الرخم والخنيق)، غير متعاطف، متوجس ولا يفهم ما تعانيه زوجته بسبب سيطرة الأفكار التقليدية الوالدية عليه، ويصدق فقط ما اعتقد أنه صحيح أخلاقيا واجتماعيا، إنه لا مبال ولا يرى ما تعانيه زوجته ويرغب في الاستقرار بشدة، ولا يفهم لماذا يرغب بعض الناس في إيذاء أنفسهم ويحكم بقسوة على زوجته المدمنة، إنه يسعى إلى استكمال شكل العلاقة بالإنجاب غير عابئ أو منتبه لما تعانيه زوجته من اضطراب شديد قد يودي بحياتها وربما ذلك ما نَفَر المشاهدين من تلك الشخصية.

هانيا وعلي نموذجان لسيطرة أنا الطفل واستبعادها لكل حالة أخرى من حالات الأنا، إنهما طفلان شريدان تحابا في البهجة وتعاطياها خيالا وحبا وجنسا ومخدرات، وهي أنا لعوبة غير مسؤولة تمل من الجدية وتجنح للجنوح.. كثيرة الشكوى وقصيرة النظر، ولذلك هما أناتان نموذجيتان للتطور المعاق نتيجة التورط في المخدرات، الحياة تمضي حولهما وهما يقفان في نفس النقطة لا يعبآن إلا بمعايير البهجة دون شر ومع كثير من المشاعر المبهجة والمؤلمة والبكاء والمحبة تماما مثل الأطفال، وربما هذا ما جذب المراهقين لهما ونفر الآباء والأمهات منهما، لأنها علاقة مضادة لكل ما هو أبوي متحفظ وتقليدي.. إنها كسر كل القواعد والتسامح مع كل الألعاب حتى لعبة الخيانة، وذلك في سبيل البهجة والمتعة. ومن ناحية أخرى نجد أم هانيا وهي أنا طفل محبط ومهزوم في حبه وعلاقته الزوجية، وربما كان ذلك ما جعلها تتغاضى أو تنكر جموح ابنتها، ربما يعوضها عما كانت تتمناه في حياتها الماضية، وفشلت فيه عندما فشلت علاقتها بشريف حبها القديم.

أما علاقة سلمى وزوجها طارق، فهي علاقة بين سلمى وهي أنا والدية مسيطرة ترغب في الاستقرار والإنجاب وتخاف من العواقب، لكنها مشوهة بأنا طفل يجد نفسه وإثارته في الاقتراب من أنا طفل آخر لعوب، وهو الزوج المدمن العابث والمتعلق دائما بنزعات عاطفية وجنسية بدائية، ولذلك تبدو سلمى أغلب الوقت قلقة وعصبية ومندفعة، وهي خليط من مشاعر أنا والد وأنا طفل.. إنها علاقة تنتمي إلى نوع من العلاقات يسمى الاعتمادية المتواطئة، وهي علاقة شخص يبدو طبيعيا مثل سلمى، ويعتمد في مشاعره وراحته النفسية على الاهتمام ورعاية شخص مضطرب مثل طارق، ولكي نفهم طبيعة تلك العلاقة علينا أن ننتبه أن سلمى لها أخا مدمنا متعافيا هو شريف، وربما كانت حياتها قبل الزواج متمحورة حول رعايته في زمن ماض، كأنا والدية راعية وفي نفس الوقت استنشقت كثيرا من هواء وروائح أنا الطفل الجامح أثناء تلك الرعاية، وعندما تعافى وتطبعت أنا الطفل داخله ولم يعد بحاجة إلى من يرعاه وهبطت أنا الطفل داخله إلى مستويات غير مثيرة ولا جامحة والتصق بأنا الأب الراعي والمعالج والمؤنب، وبالتالي ثقيل الظل مثل أي أب عموما، انتقلت برعايتها الوالدية المعلنة وطفولتها المكبوتة إلى طارق زوجها لكي ترعاه وتلتقط بجواره بعضا من حرارة أنا الطفل خاصته، وذلك حتى وصلت العلاقة مرحلة الخطر بظهور مرض الإيدز في الأفق.. تركته ليس لكي ترعى نفسها وتنضج وتنفصل عن الاهتمام بـ ورعاية الآخرين، لكن لتبحث عن مدمن آخر ترعاه، لتستمر في رعاية  مريم من خلال علاقة صداقة ظاهرها النضج وباطنها الرغبة المستمرة في التمحور حول شخص آخر يعاني.. إنها أنا والدية مشوهة رغم ظاهرها الصحي، وقد تستمر هكذا.

تبقى العلاقة الوحيدة التي كانت تسعى وتنمو بهدوء تحت السيطرة، وهي علاقة إبنة الخالة مايا وزوجها المهندس هشام.. إنها علاقة بين اثنين من الأنا الراشد الذي يعرف ما يريد ويقرأ مشاعره بدقة ووضوح ويسمح لأنواته الأخرى بالظهور (أنا الطفل وأنا الوالد) متى كانت هناك إستثارة لتلك الأنوات، لكن بجرعات منضبطة لا هي مشوهة لأنا الراشد السائدة ولا هي مسيطرة على صفحة الوعي، فهي أعجبت به باندفاع طفولي منضبط وأهدافه محددة تحت سيطرة الأنا الراشد، وعندما تلاقت الأهداف تزوجا واستطاعت أن تتنازل عن بعض رغباتها مثل تحديد علاقتها بمريم لكي تسيطر على العلاقة.. إنها باختصار علاقة أنا ناضجة بأنا ناضجة، ومثلها كانت علاقة أنس بأخت علي.. علاقة بين أنا ناضجة وهي أنس وأنا تسعى للنضوج وهي البنت التي تسعى للهروب من جحيم أخيها الأنا الطفل.

ونأتي إلى العلاقة الأخيرة المثيرة للجدل، وهي علاقة إنجي ومعتز، فهي علاقة أكثر تعقيدا، لقد بدآ طفلين مثل علي وهانيا، وانتهيا راشدين مشوهين بشدة بأنا الطفل أحيانا وأنا الوالد أحيانا أخرى، فهما يحبان بعضهما ويشفقان على بعضهما ويراعيان بعضهما، حيث يهتم أحدهما بجرعات الآخر من المخدرات في غيابه، ولا يقبلا إهانة أحدهما من الأغراب، على المستوى البيولوجي، فإن تعاطي المخدرات يثير باستمرار مستويات بدائية في المخ، وهي نفس المستويات التي يتم إثارتها عند تنشيط أنا الطفل، وفي هذه الحالة تمت إثارة تلك الأنا طويلا، سواء بشكل مباشر من خلال تعاطي المخدرات، أو من خلال حياة التعاطي نفسها وارتباطها بالإثارة والانفلات من المسؤوليات والالتزام، إنهما يفعلان كل ذلك بشبق ورعونة الأنا الطفل، فتفسد العلاقة ويصابان بالإيدز ويموتان في النهاية،  لماذا؟ لأن قسوة أنا الوالد التي تسكنهما، لن تقبل الفشل الصريح وتفضل القضاء على الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top