(كام ليلة فاتت علينا وكام نهار فاتوا.. والهم والحلم ذاتهم.. والضلام ذاتُه)!
نعم تمر أيامنا وتتوالى السنون.. وبعد خمس سنين، بقي الهم والحلم على ما كانوا.. وبقي الظلام.. لكن بقيت فينا \”يناير\” وأيامه وميدانه ومشاهده وروحه الخالدة.
تحل علينا الذكرى الخامسة للثورة.. ثورة يناير.. وإن كان يكفيك أن نقول \”الثورة\” فقط لتعلم أن كلامنا على يناير، فإني أذكر جيدا – مما درسناه في العربية: (لو قلنا \”المدينة\”.. فهي المدينة المنورة.. ولو قلنا \”الكتاب\” فهو كتاب سيبويه..) وبالقياس على ذلك فــ \”الميدان\” هو ميدان التحرير، و\”الثورة\” هي ثورة يناير.. هذا ما أراه وأدين به وما سأقوله لأبنائي. الثورة المصرية.. هي ثورة يناير.. يناير ولا غير.
تحل ذكراها الخامسة وشبابها بين ظلمات القبر أو ظلمات السجن أو ظلمات التغريب في المنفى أو في وطنهم!
تحل الذكرى الخامسة وهناك من يلعب على كل الحبال، ويداهن الثورة ويهادن الجميع؛ فهو لا يصرح بالكره والرفض والشتيمة، وإنما تجد في تلميحاته ومن وراء كلماته تبدو البغضاء ويظهر الحنق، ولا يخفى على أحد يسمعه أنها ليست على هواه.. حتى وإن ادّعى الحياد أو القبول مرارا وتكراراً.
تحل ذكرى يناير، وقد تبجح عليها السفلة والساقطون، ونال منها من كان لولاها ولولا شهداءها طريدا خانعا.. لا يجرؤ على فتح فاه أو رفع عينه، فلما تجاسر واسترجل، لم يجد سوى يناير ليعلو صوته برفضها وعدم الاعتراف بها.
يهاجمون يناير.. يشتمونها والمنتمين لها.. ينعتونها بالمؤامرة والخسارة.. يتملكهم الرعب إبان ذكراها.. يطيب لهم محوها وموتها وذهاب ذكراها وذكرياتها بلا رجعة.
إذن وبوضوح: هي كابوسهم.. يرونها كابوسا مرعبا مزعجا يسجنهم فيشل حركتهم ويقتل حياتهم وينغص عيشهم.. هي – في عينهم – لعنة تطاردهم فتنفيهم وتلغيهم، فلماذا يرون يناير هكذا؟! ماذا فعلت ثورة يناير لتصبح هكذا في مخيلتهم؟!
لعلها ببساطة: (أفكار وقيم يناير).. نعم.. فلا نجد تفسيرا لكرههم ورعبهم هذا إلا فيما قامت من أجله الثورة في يناير.. ففي يناير، ثار الناس على الظلم والجهل، ثاروا على الاستبداد والفساد والإفقار والمرض، ثاروا قبل ذلك كله.. على الخوف! ومن يعادي يناير أو ينكرها أو حتى لا تروق له، فهو إما لم يعرفها ويعرف أهدافها.. أو أن له هوىً ومصلحة في وجود الظلم والجهل والفساد والخوف وكل ما قامت ضده الثورة.
قامت يناير ضد الظلم والمظالم بكافة أشكالها.. كانت أعلى وأقوى كلمة حقٍ قيلت في وجه سلطان جائر، يطغى ويبغي ويتسلط ويسرق وينهب ولا محاسب أو رقيب.
قامت يناير ضد الجهل ودولته.. ضد أن تتقدم الدنيا من حولنا ونحن نزداد تخلفا وسقوطا.. سبقتنا شعوب كان شوطها وراء خطونا، فقامت يناير ضد الجهل والتجهيل والخرافة والشعوذة وشغل العامة وإلهائهم بالتوافه والسفسطة والشائعات.. قامت لتزيل الغمامة عن أعين الناس والمجتمع فيروا العالم والبلاد حولهم كيف ساروا.. وكيف كان الناس ثم صاروا! فيرون كم ضاع من عمر هذه البلاد في أوهام باعها لهم لصوص مجرمون؛ سرقوا أعمارهم ومستقبلهم قبل أن يسرقوا أموالهم.
قامت يناير ضد الاستبداد وحكم الفرد.. قامت ضد مفاسد العجب بالرأي وتزلف المحيطين الطبالين وتزيينهم لسوء العمل.. قامت ضد دولة الحزب الواحد والرأي الواحد والرئيس الواحد.. ضد كل أفكار الصف الواحد وجبر الناس عليها؛ بما يناقض سنن الله في أرضه من الاختلاف والتنوع ثم الانتخاب (الاصطفاء).
قامت يناير ضد الفساد والرشى والمحسوبية والعلاقات المشبوهة.. قامت ضد أكل الحقوق وضياع الواجبات.. قامت ضد \”الطرمخة\” و\”الفهلوة\” والنفاق.. قامت ضد إفقار الناس وإذلالهم ثم المتاجرة بمعاناتهم وآلامهم. ضد اتساع الفجوة بين فحش الغنى وبين العدم والأكل من الزبالة.. قامت ضد كوننا أكثر أهل الأرض مرضا بالالتهاب الكبدي.. قامت ضد بيئتنا ومياهنا الملوثة وضد مرافقنا الصحية المتهالكة.. وضد مواقفنا الخارجية المخزية.
قامت يناير قبل كل ذلك ضد الخوف.. ضد خوفنا من القمع وإرهاب الدولة.. ضد مصادرة حقنا في التظاهر والخروج.. ضد خوفنا من أنفسنا أولا.. ضد كل من راهن على أننا لا ولن نستطيع.. ضد كل من قتل الأمل والحلم.
أما من استمرأ الظلم ورضي به طالما لم يطله.. ومن ظلم غيره ورأى نفسه فوق الناس.. ومن استفاد من جهل الناس وانحطاطهم، ومن ساعد في إلهائهم وتخويفهم وفساد نفوسهم، ومن انتفع من السلطة أو كانت له حظوة بقربه من الحاكم، ومن بنى مصالحه في بيئة قذرة يملؤها الفساد والوسائط، فهؤلاء جميعا لا تعويل عليهم في نصرة حق أو إنكار باطل! وحربهم ومعاداتهم ليناير وأفكارها مفهومة ومنطقية.
………………..
دخلت الميدان صباح يوم الأحد 30 يناير.. لم أدر حينها أنني أدخل إلى عالم آخر غير الذي أعرفه، لم أع حينها أني سأخرج من الميدان شخصا آخر غير الذي دخله؛ رأيت في الميدان شعبا مختلفاً، رأيت المصريين كما لم أرهم من قبل، أحببتهم من أول يوم.. علمتني أيام الميدان ما لم أكن لأتعلمه لولاها.. جمعتنا الثورة على قيم الصدق والعدل والإنصاف.. علمتنا قبول الآخر والعيش مع الجميع.. رسخت فينا قيمة الحق والوقوف في صفه، علمتنا ألا نقر ظلما أو ننصر باطلا.. علمتنا يناير قيمة العلم وضرورته لبناء حضارة المجتمعات ونهضة الأمم، وهبتنا يناير أمل بناء الوطن الجديد.. على أسس العدل والحب والرحمة والصدق والشفافية والوعي، بل وأولا سعادة الناس! نعم.. الناس الذين باع أكثرهم يناير وسبوها وشتموها وانقلبوا عليها.. لم تكن تطلب يناير سوى سعادتهم ورفاهيتهم وحريتهم؛ ولم تقم سوى من أجلهم!
سكننا الحلم وعاش فينا وعشنا به.. ولن نتنازل عنه ما حيينا؛ هو قدرنا وعهدنا.. عهد كل من كان في الميدان، مدينا لتلك الثورة وابنا من أبنائها.. أبناء يناير.
أخيرا.. من ظن أن يناير يمكن أن تموت أو تختفي فهو واهم ساذج.. يناير باقية في قلوبنا وعقولنا وخواطرنا.. ومازالت قيمها وأفكارها حية تسعى فينا ونسعى بها.. ولعل الله يكتب يوما لها أن تحكم ولأفكارها أن تسود.. قد يكون ذلك بنا، أو ربما بأبنائنا من بعدنا؛ أبناؤنا الذين سنربيهم على مبادئ العدل والحق والخير والحب.. وسنحكي لهم أيام ميداننا يوما بيوم.. ليكونوا هم أيضا أبناءها!
فليعتقلوا من شاءوا وليقتلوا من طالوا وليرهبوا وينفوا من استطاعوا، ستظل لعنتهم في أفكارها ومبادئها رغم أنوفهم، وستعلوهم يناير وتبقى وتعيش رغم نباح الكلاب.