د. محمد شوشان يكتب: "رفاهية الاكتئاب".. الفرق بين الطبيب والسيكوسيكو

أحمد صديقي طبيب الطوارئ.. شاب إقليمي، نشيط ومكافح أو (كفحتجي) كما يقولون عنه، يخرج من بيته فجرا أول كل أسبوع إلى القاهرة حيث (إديلوا نبطشيات 24 ساعة) ثم يعود آخر الأسبوع في الليل لزوجته وابنه. الحزن دائما يملأ وجدانه، ربما لأن تفاصيل حياته الرتيبة تتكرر بلا جديد، وربما لأنه كلما خرج للعمل تخفى من صغيره الذي طالما إن أحس برحيل أبيه، تعلق ببنطاله والدموع تنسكب من عينيه البريئتين والشحتفه تحول دون التحكم في سيلان أنفه الأحمر الصغير على البنطلون، ثم يدور الحوار المتكرر: مش هتأخر يا حبيب بابا (لأ إنت كداب، إنت مسافر) حبيبي علشان أجيبلك لعب من عمو اللي بيفرش قدام المترو (مش عاوز لعب.. أنا عاوزك إنت يا بابااااااااااا عاااااااااااا)، وبعدييين بأه؟ هتأخر كده (يقول لنفسه): ثم إن الدخل لا يحتمل بنطالا جديدا كل أسبوع (يا ابن الجزم)، ثم يحمله ليقبل خده الذي بللته الدموع ويداعب شعره الناعم حتى يغلبه النعاس، وقبل أن يسكنه فراشه، يرفع الأب طرف \”فنلة\” الصغير ليمسح بها أنفه، (أنا مش قولتلك مية مرة متعملش كده، خد منديل أهوه).. هكذا قالت الأم التي استيقظت لتودع حبيبها.

أحمد عادة لا يفطر، لكنها تصر كل مرة على أن تعد له الفطار قبل أن ينزل، وكفاتن حمامة في آخر مشاهد فيلم \”أيامنا الحلوة\”، وقفت الزوجة وراء الشباك تنظر لأحمد حتى يختفي في ظلمة الليل قبل آذان الفجر، ثم قالت بصوت يملأه الشجن: (إمتى بأه هنروح السخنة.. يوووووووووووووووووووووووووه).

الغريب.. رغم كركبة حياته.. أحمد دائما في يديه كتاب طبي يذاكر فيه كلما سنحت الفرصة، والأغرب من ذلك أن قميصه دائما مكوي.

حكى لي في الليل أثناء النوبتجية بالمستشفى الحكومي (بعد النجاح  بدون خسائر) في زحلقة المريض الذي يموت احتياجا لسرير رعاية مركزة، لعدم وجود سرير رعاية متاح بالمستشفى (كالعادة) إنه بالأمس حينما كان نوبتجيا في هذه المستشفى التي لا تنتمي للمستشفيات الحكومية، ولا للمستشفيات الخاصة، تلك المستشفى (العسسسس#$^&*كري)، حيث المجهود الخفيف والأجر اللوز العنب.. حضر إليه في المساء رجل يبدو عليه هيبة الدولة، يطلب حجزه حالا (طوارئ) للشعور بألم أو شيء ما كطنين في أذنه، بدت على أحمد الدهشة للحظات، ثم قال له بكلمات متوترة: حضرتك.. سيادتك تقدر تييجي بكرة للإستشاري بالعيادة، وسوف آمر لمعاليك بحقنة مسكن قوي جدا جدا سيادتك، وسوف….. لم يدعه يستكمل حديثه، وراح يتفقد المكان، ثم اقسم لي أنه بعد لحظات تلقى اتصالا على هاتفه من خاصية الـ (لا رقم) من شخص يقول له: دّخل الباشا يا ابني غرفة حالا، والدكتور \”فلان الفلاني\” أستاذ الأنف والأذن بالقصر العيني سوف يأتي حالا للكشف عليه بغرفته.

لقد جف ريقي من فرط التفكير فيما حدث.. استكمل حديثه بصوته الممزق حزنا وقال: لا اعلم لماذا تذكرت الآن الدكتور أيمن أخصائي العظام، حينما قال لي في ليلة حزينة من ليالي النوبتجية الباردة في السكن أثناء احتدام المشاجرة بين بضع أطباء على من سينام على السرير المتبقي, قالها بصوت حزين وكله دفء: (هما اتنين بس في المجتمع ده إللي بيشيلوا شنطة فيها غيارتهم ويباتوا في مكان ويصحوا تاني يوم يحضروا الشنطة بسرعه عشان يباتوا يشتغلوا في مكان تاني.. (الدكتور والست السيكوسيكو).

قطعت كلامه الكئيب وقلت له: ما هذا الذي تقوله يا أحمد؟ كيف تساوي أيها المخبول بين الطبيب والمرأة اللعوب؟ دي بتكسب فلوس كتييير أوي يا ابني.

هون عليك يا صديقي، اعلم أن الوطن لم يعد يطيقنا مثل هذا المريض الذي سيموت على كنبة السيارة الخلفية أثناء اللف في الشوارع على مستشفى يمكنها علاجه، لكن يجب أن تنفض عنك تلك التفاصيل السوداء أولا بأول.. على الأقل حتى يمكنك أن تقبل ابنك حينما تراه

وبعد أن رأى في عيني سؤالا: لماذا لا تتناول حبوب مضادات الاكتئاب؟ ابتسم وقال: صحيح أن اليوم في هذا البلد أصبح ممتلئا عن آخره بأخبار تقرف، إلا إن الحياة أصبحت سريعة جدا لدرجة أننا لم نعد ننتبه لإخفاقاتنا فيها، والعيون لم تعد تنام ويتداخل أمامها الليل في النهار، وإن غفت تعبا، سوف تشعر حتما بالذنب، ومثلي ليس لديه الوقت أساسا حتى يكتئب قليلا.. على ما يبدو في هذا الزمن أصبح \”الاكتئاب رفاهية\” يصاب به فقط الناس الرايقة.

هذه القصة من خيال الكاتب الكداب، ولا تمت للواقع بأي صلة، ومفيش حد اسمه أحمد بتاع طوارئ أصلا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top