د. محمد شوشان يكتب: الحوافز لسه منزلتش.. الطبيب المقيم

(على كل حال لا أعرف مهنة أخرى تتعامل مع الإنسان في حضيض ضعفه ووهنه وخوفه مثل الطب، مهنة ترغمك على سماع آخر كلمات المحتضرين، وهلوسة الغائبين عن الوعي، مهنة ترغمك على أن ترى مشهد الموت الرهيب مرارًا)
أحمد خالد توفيق
ما إن فرغ قليلا في الساعات المتأخرة من تلك الليلة الباردة أثناء نوبتجية بالرعاية المركزة في إحدى المستشفيات الخاصة لسد عجز نفقاته (لحين إقرار كادر الأطباء وبدل العدوى \”أطال الله في عمره\”) وفى سكون الليل التام الذى يقطعه كل فترة بانتظامٍ ممل ليزيد كآبته صوت المنبهات المنبعثة من أجهزة الرعاية المركزة لمتابعة العلامات الحيوية للمرضى، كان الدكتور خالد عادل (طبيب الرعاية المقيم) يقرأ تلك السطور.
لم يدرك خالد نصف المقال حتى ترقرقت الدموع في عينيه، ليس لأن مشاهد الموت المتكررة فعلا لازالت تحدث أثرا في نفسه، فهو تعود على ذلك، لكن لأن ذكرياته مع زميله طبيب الرعاية الذي مات منذ شهر أمام عينيه بعد عدوى الجهاز التنفسي لم يعلوها التراب الذي وارى جثته بعد.
مراحل موت صاحبه مرت كلها أمام عينيه في أسبوعين، ملامح وجهه الشاحب الذي كان يعاني وهو يستجدي الهواء ليملأ رئتيه كل نفس، أنبوبة الشفاط التي كانت تخترق فمه كل ساعتين لتسحب ما تراكم في صدره، هلوسته، وصيته، بسمات يأسه وعبرات خوفه وألمه، الأنبوبة التي دسها له في قصبته الهوائية حتى تستمر حياته لأيام أخرى على جهاز التنفس الصناعي والساعات المريرة التي نقل فيها من المستشفى الخاص باهظة التكاليف بعد أن حملت أهله الديون إلى المستشفى الحكومي التي كان يعمل هو فيها بعد أن تدخلت المعارف حتى يضمه سرير خاوي. دموع أمه وصوت أبيه المختنق بالحسرات وأسئلته كل يوم عن نسب الشفاء التي لم تكف أبدا رغم أنها لم تلق أي رد، ثم لحظات إنعاش قلبه بضربات كسرت أضلعه بلا جدوى إلى أن أعلن الحضور توقيت الموت.
وطبعا، وفاة صاحبه لم يكن لها أي مردود سوى أن نوبتجية يوم الأحد من كل أسبوع وهو يوم النوبتجية الخاصة بصاحبه الميت باتت تتبدل على باقي الزملاء لحين توافر زميل جديد.
مزقت رنة هاتفه اللحظات السوداء فرد بعد أن ألتقط أنفاسه، كان المتصل زميله في المستشفى الحكومي (الدكتور صابر صميدة) ذلك الشاب الأسمر النحيل، القروي الذى لم تبهره أضواء المدينة قط، فالمدينة الآن لم تعد تحدث أثرا في نفس الوافد إليها سوى الكآبة المفرطة والحنق الشديد والتوتر الدائم بمجرد الالتحام بتفاصيل ضجيج العاصمة.
قال صابر صميدة بلهجة الفلاحين الطيبة والتي عادة ما تخرج منه عفويا عندما يتوتر أو يغضب:
– نبوس يد إللى خلفوك يا خاااالد تيجيلى بكرة بدرى تستلم منى النبطشية لجل نلحج الشغل التانى، ماشى يا خاااااالد وحياة أبوك يا جدع مش زى كل مرة.

في الحقيقة، خالد فعلا في صباح اليوم التالي لكل نوبتجية يقضيها في تلك المستشفى الخاص يبذل قصارى جهده للحضور مبكرا بالمستشفى الحكومي على الأقل حتى لا يتم الخصم من الحوافز.
وعلى ضوء الحوافز سأل خالد بشغف وقال:
– هى الحوافز نزلت يا صميده؟
فأجاب صميدة بصوت تملأه الحسرة والشجن:

– لأ لسه منزلاتش يا خالوووود
وما أن انتهى خالوووود من محادثته مع صابر صميدة حتى اتصل بالدكتورة (منى غانم).
ألغت منى الاتصال في المرة الأولى، الأمر الذى أشعره بحرجٍ شديد لتأخر الوقت إلا أنها كانت منهمكة في محاولات السيطرة على حالة القيء الدموي الناتج عن انفجار دوالي المريء لمريض تليف الكبد الذي تم حجزه منذ قليل بتلك الرعاية المركزة التابعة لمستشفى خاص شهير في المهندسين، تعمل فيها يومين من كل أسبوع (لحين إقرار كادر الأطباء وبدل العدوى \”أطال الله في عمرها\”)، ثم عاودت منى الاتصال بخالد بعدها وقالت:
– خاااااااااااااالد إن شاء الله هجيلك أستلم منك بكره بدرى علشان تلحق شغلك. مش زى كل مرة. أكيد. متقلقش.
ثم سألته بنبرات تتعثر خجلا:
– إيهههه أ أ أ خالد.بقولك، هى الـ الـ الحوافز نزلت؟
فأجاب:
– لأ للأسف \”لسه منزلتش\” يا منى.
(منى غانم) طبيبة مجتهدة جدا وتتمتع بضمير ندر وجوده هذه الأيام كما تتمتع أيضا ببعض أشياء من الأنوثة إلا أن القيء الدموي كان قد طمس ملامحها تماما في هذه اللحظة.
وعليه أجرت منى اتصالان، الأول كان على عجل بزوجها أخصائي المسالك البولية تذكره ليمر على (ماما) ليصطحب (إياد) ابنهما إلى المدرسة قبل الذهاب إلى عمله، الأمر الذى جعل زوجها كالعادة يندب حظه العسر الذي أوقعه في حب الدكتورة منى والتي كانت حينها طبيبة في سنة الامتياز.
(ولغير الأطباء أعرف سنة الامتياز كما عرفها الخبراء بأنها موسم تزاوج ذكر النائب وأنثى الامتياز).
سألها زوجها في آخر المكالمة عن الحوافز فقالت:
– لأ يا حبيبى للأسف. \”لسه منزلتش\”
صحيح أن منى وزوجها \”واخدين بعض عن حب\” إلا أن الحب الذي عاش في زمن الكوليرا \”إتنا زل\” عن حياته بمنتهى السهولة في هذا الزمن.
الاتصال الثاني كان طبعا بالطبيب النوبتجي الذى سيتسلم منها العمل باكرا لتفيده علما بضرورة الحضور إليها مبكرا، لذلك اتصلت الدكتورة (منى) بالدكتور (وائل الصاوي)
ولمن لا يعرف الدكتور (وائل) فإنه طبيب رغم مهارته ونبوغه الطبي بشهادة الجميع إلا أنه بثيابه الشاكية وشعر رأسه الذى لم يتحسس أسنان مشط منذ شهور ولحيته المنسية إلا في المناسبات وسيجارته الـ (إل إم) التي لا تفارق إصبعيه إلا نادرا يشعرك بأنه \”سواق ميكروباص\”.
والله العظيم الدكتور (وائل) كان برنس أيام الكلية إلا أنه تزوج ويعول ولدين.
لم يعد لديه أي بارقة أمل في مستقبل أفضل لأولاده إلا الانتهاء من الماجستير ثم الخليج حتى \”آخر العمر يا ولدي\” أو \”آخر قطرة بترول يا ولدي\” على حد قوله، إلا أنه تأخر في مناقشة الرسالة ثلاث مرات، المرة الأولى كانت لأسباب مادية عرفتها زوجته (بمصاريف مدارس الأولاد) والثانية كانت لأسباب شخصية عرفها هو (بالمرقعة) أما المرة الثالثة فكانت لأسباب أمنية حيث إن الأستاذ الدكتور مشرف الرسالة ومدير وحدة الرعاية المركزة بالمستشفى الجامعي قد أعتقل لأنه إرهابي كما عرفته الحكومة.
رد الدكتور وائل على الدكتورة منى بأدب شديد حيث أعلمها بأنه سيبذل قصارى جهده في الحضور مبكرا حتى يتثنى لها الانصراف، وقبل الانتهاء سألها باستحياء:
– الحوافز! إيه؟ مفيش أخبار؟
فردت:
– لأ \”لسه منزلتش\” يا وائل.
رد فعل وائل عن الحوافز كان مختلفا عن الباقين، فما لبث أن أغلق الهاتف حتى أصدر صوتا مزعجا عبر أنفه وأتبعه بصيحة أشبه بنداء ثم هتف في حنق شديد (لسه منزلتش يا حكومه يا)، كان صوته عاليا للحد الذى أيقظ كل من حوله حتى المرضى، يبدو أنه قد نسي أنه نوبتجي في مستشفى خاص راقية وهادئة، اعتاد العمل فيها منذ سنة تقريبا (لحين إقرار كادر الأطباء وبدل العدوى\” أطال الله في عمره\”)
لم يعتذر لأحد واكتفى بأن غادر لغرفة الاستراحة المجاورة للرعاية، اشعل سيجارته ونفخ سحابة الدخان ومعها بعضا من غيظه المحبوس قبل أن يتصل هو الآخر بزميله الطبيب الذى سيتسلم منه العمل في الغد، فتحدث إلى (الدكتور صابر صميدة). \”حد فاكره؟\”

صميده دائم التأخر على وائل في كل مرة، الأمر الذى جعل وائل يستهل حديثه بسباب قد جاوز الآباء إلى الجدود وتوعده إن لم يأتي مبكرا فسوف… قاطعه صميدة سريعا وأقسم مرارا بأنه قبل قليل قد تحدث مع خالووووود \”الدكتور خالد عادل\” الذى وعده بالحضور ليتسلم مهام النوبتجية مبكرا حتى نتجنب تلك المشاكل التي تحدث في كل مرة.
واستطرد صميدة قائلا:
– حتى بالأمارة سألنى عن الحوافز فجولتله \”لسه منزلاتش\”. الشيء الذى جعل وائل يشكر له بشدة.
بالطبع. هذا ما حدث بالضبط. فقد انتظر (صابر صميدة) زميله (خالد عادل) الذى انتظر (منى غانم) التي انتظرت (وائل الصاوي) الذى كاد أن يحترق انتظارا لـ (صابر صميده) الذي انتظر زميله (خالد عادل) الذي انتظر (منى غانم) التي انتظرت (وائل الصاوي) الذي….

\”على كل حال هذا هو الواقع ببساطة، الكل في انتظار الكل، والكل في انتظار الفرج \”دكاترة وعيانيين وعمال ومديرين وفلاحين\” الكل يصحو مبكرا لتدور به ساقيته مغمض العينين حتى يخلد ليلا ساكنا إلى نومه في لحظات، الكل مهموم والكل مذنب والكل مظلوم والكل تعب\”

تدور في دنياك بلا استراحة، فينسيك ألم قدميك وجع ما ضاع أو ربما سلب منك.
وقليل من يعي حقيقة مقولة مالكوم إكس (الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد)

لذلك لا تنتظر أحدا إلا نفسك.
بين الحين والآخر عليك أن تقف لحظات، لتفكر أين أنت بالضبط وماذا كنت تريد؟
كسِّر ساقيتك.
اهرب من نسق حياتك القاسي للحظات تتأمل فيها حالك على مهل.
خط بقلمك تعريفا محددا لمشكلاتك، على الأقل لتدرك بالضبط ما هي منغصات حياتك.
قرر صميدة الانصراف من المستشفى الحكومي تحت ضغط قلة أدب وائل، كذلك تحمل المخاطرة بتسليم أحوال مرضى الرعاية المركزة لخالد بالتليفون، كما اضطر أيضا إلى أن يستقل \”تاكسي\”.
انتبه السائق للشاب النحيل الجالس بجانبه وهو يحدث نفسه بصوت مسموع ومتوتر، بينما ظلت قطرات عرقه التي تلمع على جبهته السمراء تتصبب على وجهه الشاحب رغم الطقس البارد، كان يقول لنفسه
– (إن شاء الله مش هيحصل حاجة)
تتسارع أنفاسه التي تسوق صدره صعودا ونزولا فيحاول اسكاتها فلا يفلح، فيردف لنفسه حتى يطمئن
– (عيان الحكومة غلبان، محدش داري بيه أساسا)
في الحقيقة، لم يسمع يومها عن مريض قد تضرر بوحدة الرعاية المركزة بالمستشفى الحكومي، ربما لم يتضرر أحد فعلا، أو لأن \”عيان الحكومة غلبان محدش داري بيه\” تماما كما قال الدكتور صميدة الذي وصل للدكتور وائل وتسلم منه أحوال مرضى الرعاية بالمستشفى الخاص على عجل وقليل من السباب قبل أن يقفز الدكتور وائل في سيارته المتهالكة يشق زحام شوارع القاهرة ويتحدث إلى منى التي تسلمه أحوال مرضاها عبر الموبايل المعلق تحت حجابها بينما كانت هي تعد حقيبتها وتجمع متعلقاتها المتناثرة على عجل قبل أن تغادر إلى خالد الذي لم يزل يلوم صاحبه صميدة لأنه غادر وحدة الرعاية وترك مرضاه قبل أن يصل هو ليعتني بهم، نهره في حدة:
– يا صميدة، قولتلك منى لسه مكلمانى وقدامها عشر دقايق، مش قادر تصبر يا أخي عشر دقايق كمان
فيما ظل صميدة يردد مدافعا عن نفسه:

– جولتلك وااااائل ما صبرش، وااااائل ما صبرش
في النهاية وصل الدكتور خالد مستشفاه الحكومي لكن متأخرا كالعادة، وجدير بالذكر أن التأخير يؤدي حتما إلى خصم ليس بقليل من الراتب، مع إن \”الحوافز لسه منزلتش\”

اقلع غماك يا تور وارفض تلف.
اكسر تروس الساقية واشتم وتف.
قال: بس خطوة كمان. وخطوة كمان.
يا اوصل نهاية السكة يا البير تجف.
عجبي
\”صلاح جاهين\”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top