حينما يخلو المرء إلى نفسه قليلا ويدع ذكرياته تتدفق أمام عينيه للحظات, قد تبرق في عتمة ماضيه ومضات، وقد يتعثر لتستوقفه موزّة ما (كان يعرفها من أيام الجيزة).. أو أيام المصيف في شرم، لا أعلم لماذا تذكرت الصديقة الروسية ذات الشعر الساحر الأصفر \”كصفار البيضة\” والوجه الرقيق الأبيض \”كبياض البيضة\”, أما خصرها فقد كان ممتلئا \”كخصر البيضة\” (بص هي كانت بت بيضة بصراحة), سألتها يوما عن رأيها في المصريين فأجابت: \”funny and dirty\”، بلا تردد، وكأنها كانت تنتظر السؤال, أرجو ألا يتبادر إلى ذهنك أنني لم أرد عليها وعلى إللي خلفوها علشان كلمة funny دي، فقد كنت أنتوي أن أقول لها: (تبا لكي.. بترجمة أنيس عبيد)، إلا أنها أطرقت مندهشة وقالت: (إمجن موهمد) يعني تخيل يا محمد، فقد كنت أثناء عودتي إلى الفندق أبحث عن صندوق قمامة لألقي فيه \”كان الببسي وكيس الشيبسي الفاضي\”، فلم أجد والأغرب هو رد فعل كل من سألت, حتى إن سائق التاكسي والذي رسمت الكآبة معالم وجهه وكان بائسا للحد الذي جعله ينسى سيجارته حتى أحرق إصبعيه, حينما سألته, انفجر ضحكا حتى سعل مرتين ثم ظل يبصق منتجات سعاله من خارج النافذة، حتى وصلنا إلى الفندق، سكتت قليلا ثم حدقت في عيني وعقبت: في بلادنا من يرمي ورقة على الطريق قد يبيت ليلته في الحبس، \”ستكون ليلة أمه سودا، آه والله زي مبؤلك كده يا موهمد\”.
(هناك) وفروا للمواطنين في الشوارع صناديق قمامة بسيطة، ثم أصدروا قانونا منضبطا يعاقب كل من يخالف، فأصبحت بلادهم جميلة، وبمرور الزمن أصبحت ثقافة أغلب الناس فيها نظيفة وراقية، هذا ما جعل الفتاة الأجنبية تحمل قمامتها حتى وصلت الفندق رغم أنها في دولة يبول شبابها \”المحصور\” في شوارعها \”عادي كده\”.
(هنا) الدولة غير مهتمه أساسا بتوفير صناديق قمامة للناس في الشوارع، و\”لو اهتمت\”، هل سيخطر ببال أحد من ماكينات تفصيل القوانين الشوامخ إصدار قانون لمعاقبة من يلقي زبالته في الطريق، ولو \”ظرفونا القانون\” هل يمتلك رجال الشرطة الحكمة لتطبيقه من غير \”سحل\” المخالفين، ومن غير \”طرمخة\” على من سيكرمش عشرين جنيه في يد الأمين، ومن غير \”مهادنة\” مع هؤلاء أصحاب المقولة الشهيرة: \”إنت مش عارف أنا مين\”.
الدولة ممتلئة عن آخرها بتلك المشاكل العتيقة العويصة التي تحل \”ببلاش\” إن أراد البعض تغيير ما بأنفسهم، ولا الحوجة للشركة الإيطاليه اللي هاتطلع الغاز.
لكن بفرض أن \”النضافة\” محتاجة فلوس واعتمادات في الميزانية لسد عجز صناديق الزبالة.. طيب أصلحوا التعليم، فساد التعيين، الروتين، ماذا عن تجديد خطاب الديني؟ فشلتم حتى في تنظيم ماتشات الكورة \”قتل العيال هلعا\” وقلتم لقد تدافع المشجعين، وهذا الشعب العظيم الذي اعتاد الذل وألف الظلم، لماذا لا يطلب حتى المساواة بين المظلومين؟
صحيح من بعد يناير والمؤامرات تحاك \”من جوه ومن بره\”، إنما إجابة السؤال: \”لماذا لم نخطو خطوة واحدة للأمام من بعد يناير\”؟، تبدو أكثر تعقيدا .
تخيل إن حيا صغيرا قذرا، ضربت أكوام الزبالة أطناب شوارعه ويعتاد كل بيت على رمي كيس الزبالة أمام باب البيت التاني, ضج شباب سكانه من فرط القذارة المحيطة وتجمهروا وتظاهروا وتذمروا أمام مجلس الحي وطالبوا رئيس الحي المعفن بصناديق زبالة كافية، فرفض طلبهم و\”نفض لهم\”, اعتصموا 18 يوم حتى أسقطوه وقد سقط منهم شهداء، ترى هل سيصير الحي (الذي اعتاد سكانه على رمي زبالتهم في الشارع 60 سنة) نظيفا بهذه البساطة وقد صارت (ثقافتهم متسخة)، هل سيبيت ابن الموظف المرتشي بلا عشاء الليلة لأن أباه أصبح شريفا؟ هل سيصير سائق الميكروباص الفوضوي ملتزما؟ هل سيتخلى منافقي النظام عن طبلتهم ويطلبون سببا آخر للرزق، هل سيخلع كل من ألف لباس الذل لباسه الذي طالما كان يظن أنه يستر أشيائه العارية ليتباهى بثياب الحرية الجديد الذي دفع ثمنه الشهداء؟ أم أن الطبع غلاب.
في محطة مترو الشهداء أتذكر شابا صغيرا بعد رحيل مبارك بأيام وقف على رصيف المترو يقول: (أرجوكم الدخول من الباب المخصص للدخول والخروج من باب الخروج علشان خاطر الشهدا اللي ماتوا) وقف الشاب يكرر نداءه بلا جدوى لدقائق ولساعات ولأيام، ثم رحل وبقي \”مبارك\” بشعبه وبحكومته وبعياله.