يقع هذا الصرح الطبى العالمى ذى المبانى الآيلة للسقوط -تحديدا- على الكورنيش فى فم الخليج، وفى الدور السادس للمعهد الذى يعالج الأورام، كانت الكاميرات التى تصور الإعلان منتصبة على البلاط الممسوح حالا.. فى أحد غرف المرضى الكئيبة التى لا تزورها الشمس أبدا.. ملايات الأسرة المهترئة البيضاء أُحضرت حالا من المغسلة، وفرشت ليلعلط بياضها تحت المرضى المبتسمين رغم إنكسار المرض ومرارة ذل العلاج بمستشفى مجانى.
وقف لاعب المنتخب يسمع ما حفظه من كلام يمدح المستشفى العالمى، ويصف مدى سعادة المرضى الذين يعالجون بأحدث الأجهزة، وآخر ما توصل إليه العلم من علاج للسرطان، ثم راح يستجدى الشعب المصرى للتبرع للمعهد القومى للأورام (اللي شافه أد إيه جميل ونظيف) بحسب تعبيره.
ربما تبرر الغاية الوسيلة، قلت لنفسى من خلف الكاميرا، فمن المنطقى ألا يقول الحقيقة، منطقى ألا يقول تبرعوا لعلاج هؤلاء المساكين المحشورين فى هذه العنابر العفنة، والآخرين الذين يموتون انتظارا فى قائمة ممن لا يجدون سريرا يأويهم.. تبرعوا لأننا أحيانا لا نجد أبسط الأدوية الأساسية لاستمرارهم أحياء.. تبرعوا لأن طوارئ المستشفى أشبه بالخرابة بالمعنى الحقيقى للكلمة.. تبرعوا لأن الفقر أصبح قاتلهم قبل المرض.
هايل يا كابتن.. قالها المخرج، فزفر اللاعب أنفاسه المحتبسة، ثم غادر مكانه من أمام الكاميرا.. اقترب مني، وقال: \”ربنا معاكوا يا دكاترة\”، فقلت له: \”بذمتك ده مكان نضيف وجميل\”، فقال: \”الصراحه لأ، مش هينفع أكدب عليك\”، وقبل أن يرحل جاءتني رغبة أن أعمل زي الناس، فاتصورت معاه سيلفي، ثم محوت الصورة فورا، \”أصل الواد ابن اللذينا ده كان لسه مستحمى وحاطط جيل، وأنا كنت مطبق بقالى نبطشيتين فى المستشفى\”.
طبعا أعز الله كل من أحس بمعاناة مرضى هذا الشعب الغلبان، وساهم فى إنشاء مستشفى للعلاج بالمجان تفتح بابا للأمل لكل مريض يقصده طلبا للشفاء بدون ذل وفقر مستشفيات الحكومة، وقهر ونصب المستشفيات الخاصة (57357 ومجدى يعقوب وبهية و. و. و. بارك الله لكل من اجتهد فيها وجزى الله خيرا كل من تبرع إليها).
إنما هؤلاء المسئولين عن الصحة فى مصر، ألا يرون كل هؤلاء الأطفال الذين يستجدون الناس عطفا للتبرع لعلاجهم.. ألا يرون الأمهات اللائى يهرولن بين المستشفيات بروشتات تمتلئ بالأدوية، يسألن الناس عونا فى شرائها؟ ألم يصادفوا -يوما- مريضا مات بحثا عن سرير رعاية يأويه ولم يجد؟ أم أن العمى أصابهم، وبدلا من اعتماد ميزانية للصحة تليق بتقديم رعاية صحية لبني آدميين، أصبحنا نرى إعلانات للتبرع إلى مستشفيات الحكومة، تزاحم إعلانات المستشفيات والمؤسسات الخيرية، بل إن إعلانات التبرع للدولة أصبحت لإنشاء مستشفى حكومى من بابها.. \”يا صلاة النبى\”!
أنا أتفهم أن كل المستشفيات الحكومية فى مصر وفى العالم كله من الممكن -أو أحيانا- من الضرورى فتح باب التبرع لها، لكن الشعور الذى تسرب للكثيرين من خلال إعلانات رمضان للتبرعات، هو أن ثمة حالة من الاستنطاع والاستمتاع والتطنيش والتنفيض من جانب الحكومة لهذه المشكلة!
إن كانت الحكومة والنظام يعتبران المرض مشكلة أصلا، وصحة المواطن من باب أولوياتهم، وهم يعتمدون كل سنة هذه الميزانية المضحكة، ولسان حالهم يقول: نحن دولة فقيرة ويجب على كل مريض تسليك قرشين يسندوه أثناء العلاج فى المستشفى الحكومى \”أيوه الحكومى\”.. مفيش حاجه ببلاش والناس لبعضيها.
صحيح أن للمنفقين وللمتبرعين، أجرا عظيما لا شك -تقبل الله صدقاتهم- إنما لابد من ألا تُبح أصواتنا أبدا مطالبةً بحقوق المرضى الحقيقية، فهم ضعفاء فعلا يتيهون فى دائرة مرضهم بين الأطباء والمعامل والأشعات، وعناء البحث عن مستشفى تسمح لهم بالدخول والعلاج، ثم عناء البحث عن العلاج الناقص من المستشفى، فتبرعوا بأصواتكم قبل أموالكم طلبا لرفع ميزانية الصحة كما نص عليها الدستور.. تبرعوا بأصواتكم قبل أموالكم طلبا لرفع ميزانية الصحة كأى دولة \”محترمة\” فى العالم، فقيرة كانت أو غنية.. تبرعوا بأصواتكم قبل أموالكم طلبا لعلاج المرضى بقليل من كرامة أهدرت فى سبيل التواجد بأى وضع فى المستشفى حتى ولو على الأرض! تبرعوا بأصواتكم طلبا من المسؤلين ذوى الدماء الباردة أن يعيروا المرضى وأهاليهم ما يليق بهم من اهتمام، وأن يعيدوا لهم حقوقهم المسلوبة؟ وأن يغيروا هذا الأمر الواقع من زمن.. تبرعوا بأصواتكم حتى لا يكون التسول أمرا واقعا وأسلوب حياة، وشعار المرحلة.. تبرعوا بأصواتكم طلبا لرفع الميزانية حتى يجد كل مريض غنيا كان أو فقيرا رعايته الطبية الكاملة، دون فرق.. تبرعوا بأصواتكم قبل أموالكم طلبا لرفع ميزانية العلاج، لأنهم يستحقون.