لا أحد يتحدث في السياسة اليوم.. لا تنخدع كثيرا ببرامج التلفزيون والتوك شو.. يوجد الكثير من الأحاديث \”المزّوقة\”.. هناك الكثير من حالات الاختطاف والترحيل القسري المسكوت عنها.. من حاولوا تحدي النظام يفترشون أرض السجن الباردة, و من نجا منهم، فقد طاله التهميش أو قص الصمت لسانه أو اكتئب.
لا أحد يتحدث في السياسة اليوم!
أكره أن أخالف النسق العام، ولا أعلم ماذا أكتب لك أيضا يا عزيزي.. حسنا, سأحكي قصة!
إن براكسا امرأة جميلة, تحيا في أثينا التي مزقها الفساد, ويحكمها عجوز مستبد، وتأسف براكسا لحال وطنها, وتقتنع أن الحل في التغيير, حتى لو كان هذا التغيير غير واضح الملامح مجهول الصفات.
لا يهم, أن تكاتفهم معا كفيل بجعل المستقبل للأثينيين، وتتوحد كلمة الرجال قبل النساء تحت شارة براكسا, ويهلك الطاغية, وتقف براكسا الوطنية لتخطب خطبة رنانة.
\”إنه ليدمي قلبي أن أرى الفساد قد دب في جسم الدولة كما يدب الموت البطئ, وأن أرى الدولة قد ألقت بشئوونها في أيدي رؤساء لا يعنيهم من أمر الدولة غير أنفسهم ومن يحيط بهم من الأخصّاء, كلهم يرى الدولة دائرة ضيقة هم مركزها, أما من خرج عن هذا المحيط فإن أبصارهم لا تعقد إليه!\”
ويؤمن الناس ببراكسا, ويقتنع الخاص والعام بكلامها, ويلتفون حولها بحب ويبايعونها على الحكم.. إن براكسا هي روح الثورة, روح الحرية, هي التي لا تعرف التفريق بين فرد أثيني وآخر.. إن براكسا هي الحلم.. وتبايعهم براكسا على حماية الديموقراطية.
وتحكم براكسا, لكن المشاكل تبدأ سريعا! إن كل فريق يطالب بشئ, وتستمع إليهم براكسا, وتعدهم بأن تنظر إلى مطالبهم بعين متفحصة, والأعباء تتزايد, وبراكسا الجميلة بحاجة إلى ساعد قوي تستند عليه، ثم يظهر هيرونيموس, قائد الجيش القوي الوسيم.
إن هيرونيموس يتحدث عن مؤامرات تحاك في الخفاء ضد أثينا العظيمة, وخيانات كبرى, ويقنعها بزيادة مرتبات الجيش, ويفزعها بأن الحرب قادمة لا محالة، وتعشق براكسا هيرونيموس وترتمي في أحضانه، وتثور أحزاب المعارضة ضد براكسا, وتتهمها بمحاباة الجيش وهيرونيموس على حساب أثينا، ويبرز هيرونيموس ليردع الجميع بقوة السلاح, هذه هي اللغة التي يفهمها جيدا.
إن هيرونيموس رجل قوي, ويده المقبضة على السلاح متأهبة دائما, ويغضب هيرونيموس من الفيلسوف أبقراط الذي يسخر من حديثه, ويتحدث بشوق عن الحرية, ويحشو أدمغة الشعب بهذا الهراء.
يقول أبقراط: \”نعم! إنها الحرية الجميلة التي في كنفها تغرد العصافير, وتنطلق الزنابير, وتتفتح الورود\”
ويغضب هيرونيموس غضبا عظيما, ويلقي بأبقراط في السجن.. إن هيرونيموس يتذرع بالإرهاب الذي تمارسه مقدونيا على حدود أثينا, ولا يستمع إلى تلك الأصوات التي تعلو, ويصفها بالفرقة الضالة, وبراكسا الجميلة قد سُجنت بين ذراعي هيرونيموس, لا يظهر لها حسا ولا بيانا, والبرلمان قد أخرسه هيرونيموس بسيوفه.
وتزور براكسا أبقراط في السجن.. إنها ترى أحلامها وأحلام الأثينيين تضيع على يد هيرونيموس قائد الجيش, والناس مساكين, لا يقدرون على شئ, والسجن المفتوح يفزعهم، فتخفت أصواتهم حتى لا تكاد تسمعها، ويفاجأ هيرونيموس براكسا وأبقراط في السجن, ويتهم براكسا بأنها حاكمة ضعيفة, لأنها تركت المطالب تستمر, والصياح يعلو, والأفواه تهتف!
هيرونيموس: ما أنت إلا الفوضى!
براكسا: وأنت؟
هيرونيموس: أنا النظام! أسمعت منذ أن قبضت يدي على الحكم أن قامت طائفة بطلب؟ أو عرف أحد برأي؟ أو ارتفع صوت بصياح؟ مضى كل هذا, وانقضي عهد الأحزاب, لقد جمعت شمل الأمة ووحدت كلمة البلاد! الكل الآن كأنه واحد, والشعب كأنه فرد!
أبقراط: هذا الفرد هو أنت!
هيرونيموس: نعم هو أنا, ولا شئ غيري أنا.. لا ارادة إلا ارادتي، ولا يد, و بهذه اليد أعطي الشعب وأخلد المجد!
براكسا: وإن لم نظفر وننتصر؟
هيرونينوس: فإنني أموت!
براكسا: ويموت الشعب معك!
هيرونيموس: إن كان قدر لشعب أن يموت, فخير له أن يموت بيد البطولة!
ويتوجه هيرونيموس وبراكسا إلى أبقراط الفيلسوف الحكيم, وهو في قيده, لأن يفصل بينهما, فيسألاه أي الحكمين أصح, فيجيب أبقراط: \” بل اسألاني، أي الحكمين أفسد؟!\”, ثم يكمل أن الحكم الأمثل هو وجود الثلاثة سويا, يسيرون كتفا بكتف: براكسا روح الثورة والحرية التي اختارها الناس, وهو أبقراط جوهر الحكمة, وهيرونيموس قائد الجيش وحامي البلاد، ويكمل أبقراط: \”نعم.. نحن الثلاثة معا, ودون أن يطغي أحدنا على الآخر\”.
عند هذا الحد تتغير نظرة هيرونيموس إلى المحادثة, فـ أبقراط ليس مجرد فيلسوف عجوز, بل هو متآمر قذر, يطمع في الحكم واسقاط الدولة المستقرة في بحار الفوضى! وبراكسا, لم تأت له بدافع من إنسانيتها أو حيرتها, بل هي خائنة ممولة.. شريكة في المؤامرة!
وتنتهي القصة بهيرونيموس يأمر حراسه وسجانيه: \”يا حراس.. ضعوا الأغلال في ساق هذه المرأة!\”.
انتهت القصة هنا, وأرجو أن تكون قد أعجبتك.. بقى أن تعرف أن هذه ليست قصتي، ولم أكتبها, بل هي مسرحية كتبها العظيم توفيق الحكيم تحت اسم \”براكسا أو مشكلة الحكم\”، ولم يكن هذا إلا ملخصا بسيطا لها، وكتبها الحكيم سنة 1939, أي منذ 76 عاما تقريبا, لكننا لا نقرأ كثيرا!
قصة عظيمة هي, وكما ترى، فقد التزمت بوعدي، ولم أتحدث في السياسة, لا أحب السياسة وتحبني, لكنني أحب القصص.