في ثاني أيامي في المستشفى الجديد، قابلت د. شوقي.. رجل في أوائل الأربعينيات كما بدا لي, له وجه مريح لا يخلو من صرامة وبشرة سمراء محببة للنفس, وجسد مربع يوحي بقوة عضلية واضحة.. كان جالسا في الردهة يدخن شاردا, حييته فلم يرني – فيما بعد- لاحظت أن سماعة المحمول السلكية لا تفارق أذنه، وأنه يشرب القهوة بلا انقطاع، ويدخن كفوهة مصنع. هذا رجل لا اعلم من هو, لكنه مهم جدا.. متوتر جدا.
يأتي أحمد زميلي ليصطحبني للخارج, فيسلم عليه ويضحك.. يدخل إلى الغرفة ثلاثة أطباء آخرين – لا اعرفهم- فيحييوه ويداعبونه بحب.. لماذا يبتسم كل من يقابل هذا الرجل؟ غريب هذا, برغم هيئته الصارمة يبدو كأنه يزرع الابتسامات على كل من يراه دون مجهود.
في الممر المؤدي إلى غرف المرضى، اتحدث مع أحمد, فيخبرني أن د. شوقي هو أخصائي العظام النوبتجي اليوم, وهو أحد الأخصائيين الأوائل بالمستشفى حديثة العهد, يقول عن نفسه إنهم بنوا حوائط المستشفى وأحضروه مباشرة.. التفت إلى أحمد وسألت بفضول: شاطر بقى على كده؟
فجأة وقف أحمد واتسعت عيناه, ثم أجاب كأنه يجيب على طفل: ده أشطر واحد في المستشفي كلها.. بيعمل أي حاجة ويشتغل أي حاجة.. ده غير إن دمه خفيف جدا، ثم يمصمص أحمد شفتيه ويجيب بحزن: بس مسافر نيجيريا الأسبوع الجاي.. خسارة.
نيجيريا؟!
ينتهي اليوم ويزداد فضولي.. بعد يومين أذهب إلى المستشفى ثانية، فأجد زملائي يتحدثون عن مغامراته, وممرضة العمليات العجوز تترحم على أيامه, وممرض الطوارئ ينظر إلى الأرض في حسرة ويقول شيئا عن البلد \”العكاكة\” التي لا تقدر الموهوبين.. من هذا الرجل؟
يبلغ فضولي مبلغه، واصعد إلى سكن الأطباء، فأراه ثانية, فاتجرأ واتحدث معه.. كان لطيفا حاضر الذهن بقوة، وله دعابات كالرصاص.. يعرف جميع من في المستشفى بالاسم، ويعرفونه.. يقولون إنه كان الشخص الأهم في مستشفى تعليمي شهير بالقاهرة، وكان أجدى وأكثر نفعا من المدير نفسه.. إلى أن زهد كل شيء.. مازال الرجل سرا، ومازلت لا أفهم لماذا يذهب شخص مثله إلى نيجيريا ليحيا حياة لا يعتادها ولا يحبها.
\”ع البال يا وطنا
ماشي الحال واتعودنا
ما في رجال تحمي بلدنا
ديون ومال وافتقرنا\”
من أغنية لهبة طوجي.
قابلت د.شوقي بعدها مرات عدة, وكل مرة لا ينقشع ضباب شخصيته, يقول إنه مسافر للعمل في نيجيريا لعامين إلى أن يهاجر لدولة بأمريكا الشمالية.. كان ثوريا بصدق.. له تلك العلامة المميزة لمن مستهم الثورة، فغيرتهم للأبد.
يقول إنه سيحاول معادلة شهاداته الطبية هناك، فإن لم يفلح، سيعمل بالبيزنس.. أسأله: هل هو مستعد لأن يضع كل سنين عمره الفائتة خلف ظهره؟ فيجيبني ساخرا أن هذا أفضل من أن يضحي بسنينه القادمه أيضا, فأصمت.
يجلس بجواري ويشعل سيجارة أخرى, ثم يقول: \”أنا عمري ما كنت عاوز أسافر.. البلد لو مدياني ربع التقدير المادي والمعنوي اللي هاخده بره، والله ما كنت حاسافر.. تصدق؟ أنا خلصت أوراق الهجرة أول مرة في ديسمبر 2010، والسفر كان بعدها بفترة.. بعد الثورة وقفت كل حاجة.. بلدنا رجعت لنا بقى نسافر ليه؟!\”
لا اتمالك نفسي وابتسم.. هذا رجل \”لبس الخازوق مغري\” كما يقولون, نادته نداهة الثورة فذهب يجلس تحت قدميها, وأحرقته جذوة الأمل، فلم يفق إلا متأخرا.
في كل مرة أشعر أن د. شوقي يعاني من إحساس غير مبرر بالذنب.. هذا رجل لا يعلم أين أخطأ.. فعل كل شئ كما يجب بلا فائدة.. ظل وطنه يلقي له بالفتات, والنفس تنطفئ والروح تسقم. من العبث أن يدحرج الصخرة صباحا ليحملها على ظهره، ويصعد بها مساءا.. ليس منا سيزيف.. نحن بشر.
تقول الحكاية إن المخلوع مبارك، كان يتلقى علاجه بمستشفى هايدلبرج بألمانيا في 2010, فاندهش مريض ألماني من الحراسة المشددة المحيطة بجناحه، فسأل: من هو؟ وعندما عرف أنه رئيس جمهورية حكم أمة عظيمة لمدة 29 عاما, قال إن هذا الرجل إما فاسد أو ديكتاتور.. فاسد لأنه يحكم هذه المدة ولم ينشأ مستشفى مؤهلة لعلاج المرضى, وإما ديكتاتور لا يأمن أن يعالجه أطباء وطنه.. لا اعلم مدى صحة هذه القصة فعلا, لكن أرى د. شوقي، وألمس آثارها في نبرته الخفيضة.
أقابل الرجل لآخر مرة قبل سفره بيومين، والناس حوله.. يجلس متربعا على فراش وبيده سيجارة.. تدخنه ولا يدخنها.. يصمت قليلا ثم يقول: \”أهلي فوق السبعين.. مش عارف إذا كنت هلحق أشوفهم تاني ولا لأ.. والله ما كنت عاوز اتبهدل ولا ابهدل عيالي.. الله يلعن أبو الكلاب اللي وصلونا لكده\”.. خيل إلي أني رأيت دمعة صغيرة ترقرقت في عينيه, لكني كذبت نفسي.
عندما خرج الرسول – ص- من مكة مدحورا مقهورا.. نظر إليها وقال: والله إنك لأحب بلاد الله إليّ, ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
سلام عليك يا د. شوقي حيث أمسيت وحيث أصبحت.. لا ألومك ولا أقدر, ولا أعرف ماذا قلت عندما رأيت سماء وطنك تبتعد من الطائرة.. هل قلت شيئا؟ لا اعلم, لكني اتمنى أن تكون قلت مثل ما قال النبي محمد.