د. محمد أشرف حماد يكتب: بقعة لا تلوثها الدموع

مرت ثلاثة شهور منذ كنت هنا, أمام هذا المدرج بالتحديد.. انتظرت حتى خرجت هي وعدّلت شعرها الناعم تحت الإيشارب وفردت قامتها, فلملمت غماري ووقفت أمامها قائلا: \”أنا بحبك\”، فنظرت إلي بغضب ومضت.. كان يوما مجيدا!
مضت الأيام في روية لا أحتاجها.. اليوم وافقت أن أصحبها إلى منزلها.. كنا عصرا, والشمس توشك على الغوص في بحر من الظلام.. نظرت إلي وقالت باستحياء \”حنركب المترو لحد محطة عين شمس وبعدين حتنزل تتمشى معايا لحد الشارع اللي جنب بيتي.. وبس\”.. يكفيني هذا, يكفيني ويفيض قليلا إذا أردت الدقة.
تقابلنا عند سلم المترو المتهالك, لا تحب أن نظهر سويا أمام الطلبة, القيل والقال لهما فعل السحر.. أنا سعيد, سعيد حقا.
\”تعرف, أنا كل مرة ببقى قلقانة قوي وأنا ماشية في الشارع الضلمة اللي بعد المترو لحد ما أوصل بيتي.. النهاردة مش حقلق\”.
قالتها فأجهزت على ما تبقى من إرادتي الهشة, فكدت أقبّلها وأقبل أرضية العربة وبائع الأمشاط هذا.. لا يمكن أن يصير الكون ملونا أكثر, هذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه ريشة الكون من سحر.

\”لما نعيش في تبات ونبات, نجيب صبيان ونجيب بنات, اسمي هو اللي حياخدوه مني وبس\”, تمتمت مستمتعا بصوت خفيض.
زفر المترو زفرة أخيرة ثم انفتح الباب ببطء.. تقدمتها وأنا أبتسم, ومددت يدي في لفتة أردتها رومانسية، فخرجت خرقاء عابثة, فتلقت يدي بين كفيها ولم تفلتها, نحن نستطيع أن نخرق الأرض الآن وأن نفوق الجبال طولا.
ظلام حالك يكتنفنا في ذلك الشارع المقبض, ونعبر أسفل كوبري تهدم أكثره, قد يهبط علينا في أي لحظة.. لا فارق, سأكون راضيا. بعد قليل لاحت لنا مخلوقات شبه حية, نبضات من الظلام الذي لم يعد حالكا جدا، إذ بددته شعلة سيجارة تقترب, وعينان لامعتان لكلب لم نره لكن سمعناه.. كانوا أربعة, وصلوا إلينا في ثوان, فجفلت هي في رعب وأفلتت يدها بسرعة، ثم حاولت الركض, فوقف أمامها واحد منهم شاهرا مطواة صغيرة قائلا: \”لسه بدري يا حلوة\”, فتسمرت مكانها.

أعتقد أن مقصدهم الرئيسي كان السرقة, لكن الأمور تسير ناحية الأفضل.. النقود متاحة دوما، لكن هناك فتاة الآن, ولا مانع أيضا من أن نحصل على الفتاة والنقود معا.

لا أتذكر جيدا, جُل ما أذكره, أن أحدهم مد يديه بعنف وأخرج هاتفي ونزعني ساعتي, وحافظتي, وعيني معلقة عليها لا تبرحها, مد أحدهم يدا قذرة على حجابها وجذبه بعنف قائلا: \”بس أنتي مزة على حق يا بت\”, ثم أكمل ما بدأه ومزق زرّين من قميصها, صرخت, كمن يقتلعوا عينه بآلة صدئة وهتفت باسمي في جزع, انتفضت مكاني ناحيتها وأنا لا اعلم ما سيحدث, فوجدت مطواة أخرى في وجهي وعبارة تُلقي علي مسامعي بشراسة: ما تعملش راجل يا روح أمك بدل ما نسيبك سايح في دمك, خمسة بالحب وماشيين.. هتفتُ بضعف بجملة مختلطة, لكنها تضمنت حديثا عن الشرطة والقسم القريب, فجاوبتني ضحكة ساخرة وصوت حلقي غليظ من أقربهم إليّ.

\”الحكومة مش فاضية يا حمادة\”

مشاهد متتابعة تهاجمني بغتة.. أبي البسيط العامل بوزارة الأوقاف, ولد وحيد بين ثلاث فتيات, يراه أبواه أملا كبيرا يأملون تحققه, ومرتب هزيل لرجل خمسيني يكفي احتياجات الأسرة بالكاد, ولقطة سريعة لشاب مزقه البلطجية لأنه أطاع فطرته و\”عمل راجل\”, صراخها يصم آذاني وأطرافي مخدرة لا تستجيب, وهم يتناوبون تناولها كوجبة خفيفة, إلى أن هتف كبيرهم \”ياللا يا جدعان\”, فيختفوا في لحظة كما ظهروا في لحظة يتبعهم كلبهم, وتسقط هي علي الأرض كحجر.

كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدا.. لوليد ينام
كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟

هذا أسوأ وقت تهاجمني فيه أبيات أمل دنقل, وحبيبتي تنتفض ملقاة على الأرض, تحاول جمع بقاياها وتنثر الدموع على التراب, كالزهور.. هل كان أمل دنقل محقا؟

\”الخيل والليل والبيداء تعرفني, والسيف والرمح والقرطاس والقلم\”.. قالها المتنبي يوما، فصادفه قاطع طريق في الصحراء، وقال له: أنت من قلت كذا كذا؟! فاستكبر المتنبي أن ينكر, فجندله الرجل وتركه صريعا, ليصبح هذا البيت الذي قتل صاحبه.. لعن الله الشعراء.

الآن تمضي هي, لا تنظر ناحيتي, تمشي الهوينى بين بقع دموعها الطاهرة, وغلالة ملائكية رقيقة تحاوطها.. الآن, فقط, أترك العنان لدموعي كشلال, وانهض متثاقلا أبحث عن بقعة لا تلوثها الدموع, ثم تفقد أعصابي تحملها, وأغيب بلا خوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top