د. علاء عوض يكتب: يا مرضى مصر.. اتحدوا

في البداية لابد من التأكيد على أن مرضى فيروس سي في مصر هم ضحايا سنوات طويلة من الفشل والاهمال وتردي الخدمات الصحية الذي مارسته الحكومات والأنظمة الحاكمة في تاريخ مصر المعاصر، بدء من خلق أكبر وعاء بشري حامل للعدوى أثناء حملة علاج البلهارسيا في الستينيات، ووصولا إلى المعدلات العالية جدا.

المستشفيات والمنشآت الصحية التي باتت الآن القناة الأهم ضمن قنوات نقل العدوى وانتشار المرض في مصر، وبرغم كل الدعاوي التي تطلقها الدولة حول دور العادات غير الصحية المنتشرة في المجتمع في توسيع نطاق العدوى، فإنها لن تستطيع أن تتنصل من مسئوليتها المباشرة عن انتشار هذا المرض بهذا المعدل الكارثي، والذي يحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم.

منذ حوالي عامين، وبالتزامن مع ظهور جيل جديد من الأدوية المستخدمة في علاج مرضى فيروس سى، والتي فتحت الباب أمام إمكانية بناء بروتوكولات علاجية ذات فعالية عالية في التعامل مع هذه الأزمة الصحية الضخمة، طالبت، أنا وغيرى، أن تتبنى الدولة مشروعا لانتاج هذه الأدوية من خلال شركات قطاع الأعمال العام.. كانت هذه المطالبات تستهدف انتاج هذه المستحضرات الدوائية بأسعار ضئيلة للغاية، في متناول قطاع كبير من المرضى في مصر، وتقلل إلى حد كبير من العبء الاقتصادي الذي تتحمله الأجهزة الصحية في علاج هؤلاء المرضى، كما كانت تستهدف أيضا تقديم قبلة الحياة لشركات الأدوية العامة التي تم تبويرها ودفعها نحو الانهيار في مسيرة \”الخصخصة\” التي دمرت الهياكل الاقتصادية الهامة في هذا البلد.

الدولة لم تلتفت إلى هذه المطالبات على الإطلاق، واستمرت في سياسات التبعية للاحتكارات الدولية العملاقة، ووافقت على \”المخطط التسويقي\” الذي قدمته ثلاثة من الشركات الأوروبية والأمريكية في فبراير 2014 في اجتماع عقد في بانكوك، ذلك المخطط الذي استهدف بالأساس السيطرة على السوق العالمي، والاستفادة من تجربة أدوية الإيدز، التي تمكنت فيها الشركات الهندية من امتلاك 80% من السوق العالمي على حساب الشركات الأمريكية.. هذا المخطط الذي قدم تخفيضات ضخمة في أسعار منتجات هذه الشركات في الدول المختلفة طبقا لتصنيف أوضاعها الاقتصادية لدى البنك الدولي، أطلقت عليه هذه الشركات اسم \”اتاحة الدواء\” طبقا للدعوة التي اطلقتها منظمة الصحة العالمية في بداية الألفية، والتي اعتمدت بشكل أساسي علي التفاوض مع الشركات الكبري المنتجة للدواء، وهي السياسة التي لم تحقق مردودا يذكر، طبقا لتقارير هذه المنظمة، لكن العديد من التقارير على مستوى العالم اعتبرت أن هذه التسمية خادعة، وأن الاسم الأكثر دقة هو السياسة التسويقية.

مصر تقع في دائرة الشرائح الدنيا من الدول متوسطة الدخل طبقا لتصنيف البنك الدولي، وبناء على ذلك، حصلت مصر على دواء السوفالدي بسعر الدول منخفضة الدخل في المراكز العلاجية لوزارة الصحة (300 دولار أمريكى) وهو يعادل 1% من سعره في الولايات المتحدة الأمريكية (حاولوا أن تتخيلوا معي القيمة المرعبة للأرباح في هذه المنتجات)، وبسعر الدول متوسطة الدخل في الصيدليات الخاصة (14900 جنيه مصرى). واعتبرت الدولة انه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن ما حدث هو أضخم انجاز يمكنه أن يتحقق في هذا السياق.. هذه الأدوية لم تحصل على حق الملكية الفكرية في دول كثيرة في العالم، من بينها مصر، لأنها ليست ابتكارا مستحدثا بالكامل، وقد أتاح ذلك الفرصة للشركات المحلية لانتاجها.. تقدمت شركتان من الشركات العامة لانتاج مثيل للسوفالدي، ولم يتحقق ذلك حتى الآن، والموضوع تم تعطيله من أطراف ما، بالمقابل لدينا الآن أكثر من 15 شركة خاصة في مصر تنتج مثائل للسوفالدى، لكن السعر المرتفع جدا للمنتج الأمريكي، أدى إلى تسعير المنتجات المصرية بأثمان لاتزال مرتفعة وخارج القدرة الشرائية للغالبية العظمى للمرضى المصريين.

ومن اللافت للنظر أن هذه الشركات قد دخلت في ماراثون التخفيضات، نتيجة للمنافسة الشديدة، ووصلت حدود التخفيضات لدى بعض الشركات إلى 60% من الأسعار الرسمية التي حددتها لهم وزارة الصحة، كما طرحت هذه الشركات أسعارا أقل بكثير لهيئة التأمين الصحي ومراكز وزارة الصحة، مما اضطر المراكز العلاجية للوزارة إلى القبول -للمرة الأولى- باستخدام منتجات مصرية، وقد بدأ ذلك بالفعل منذ أيام قليلة. وبالرغم من يقيني، بأن هذه الأدوية من الممكن طرحها بقيم تقل عن 10% من قيمة أدنى سعر مقدم من الشركات المصرية، إذا ما انتجته الشركات العامة وطرحته في الأسواق بهامش ربح معقول، وبالرغم من الجدوى الاقتصادية العالية جدا لهذه العملية بالنسبة للمجتمع، ولهذه الشركات أيضا، فإن تحقيق هذا الحلم يبدو مستحيلا.

خيارات الدولة لا تنفصل عن سياساتها العامة وانحيازاتها الاجتماعية، وبالتالي لم يكن أمرا مفاجئا، بالنسبة لى، أن تختار الدولة هذا الخيار. الأمر يبدو واضحا ومفهوما في بلد يستورد أكثر من 70% من احتياجاته في كل المجالات، ويدمر بشكل دؤوب ما تبقى من هياكله الانتاجية، وينتهج سياسات التبعية الكاملة للاحتكارات العالمية الكبرى ولا يقوى على مواجهتها وتحديها. الاحتكارات هي ما تحكم العالم، واحتكارات الدواء والسلاح هي من أكبر الكيانات الاقتصادية على أرض هذا الكوكب، ولا أستطيع أن انسى كيف استطاعت هذه الاحتكارات اختراق منظمات دولية ضخمة في قصة انفلونزا الخنازير عام 2009، وما ترتب على ذلك من ارتفاع هائل في مبيعات أدوية بعينها.. هذه الاحتكارات تديرها شبكة ضخمة من المصالح والكيانات الكبرى (أهم عضو في مجلس إدارة شركة جلعاد الأمريكية المنتجة للسوفالدي هو دونالد راميسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق)، ولديها أدواتها العديدة في فرض سياساتها علي السوق العالمي.

ماذا عن النقابات والأحزاب والجمعيات؟ في الواقع هذه الكيانات في مصر \”بعافية شوية\” ولم اتوقع منها الكثير في هذه القضية.. نقابة الصيادلة تحركت في هذه القضية بشكل واسع نسبيا، وإن كانت ركزت في حركتها على جزئية غياب الشفافية في تعاقد الدولة مع شركة جلعاد، واقصاء المنظمات المجتمعية من الأمر برمته.

جمعية الحق في الدواء تحركت أيضا -وإن كانت حركتها سارت في إطار قريب جدا من نقابة الصيادلة- وأخيرا، قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بتشكيل مجموعة عمل لدراسة هذا الملف، وخرجت بتقرير واف عن الموضوع، بالإضافة إلى بعض المواضيع والحوارات الصحفية هنا وهناك -وفي حدود علمي- لم يكن هناك حراكا مجتمعيا طيلة العامين الماضيين أكثر من ذلك، حتى ولو في حدود البيانات الإعلامية.

الخطاب إذن لابد أن يوجه إلى الطرف الأهم في المعادلة، الطرف صاحب الحق والمصلحة الأصيلة في الحصول عليه، هذا الطرف هو المرضى أنفسهم.. لا يمكن الرهان على الدولة في تبني سياسات مختلفة تنحاز إلى جموع الشعب في الوقت الراهن، وأيضا لا يمكن الرهان على المنظمات المجتمعية والسياسية الحالية، لكن بالقطع يمكن الرهان على ملايين المرضى إذا ما تجمعت إرادتهم تجاه أفعال محددة، واستطاعوا تنظيم أنفسهم في جماعات ضغط فعالة.. في العديد من دول العالم تلعب جمعيات حقوق المرضى أدوارا هامة في رسم السياسات الصحية ومتابعة الأداء والرقابة على الخدمة.. نحن لدينا في مصر ما يسمى بجمعيات أصدقاء المرضى، التي تقريبا ما تكون خالية من المرضى، ويشكلها غالبا أطباء بالنيابة عن المرضى، وتدور معظم أنشطتها حول تقديم بعض المعونات وجمع التبرعات من رجال الأعمال.

ما نحن بحاجة إليه الآن، هو جمعيات يشكلها المرضى أنفسهم، دفاعا عن حقوقهم، تمكنهم من طرح احتياجاتهم ومطالبهم، وهي مهمة اتصور أن يبادر بها المرضى المهتمين بالشأن العام وأصحاب الرؤى والأفكار التي تقّدر أهمية المشاركة الشعبية وعلى استعداد للنضال من أجل تحقيقها.

ما الذي يمكن أن تقوم به جمعيات مرضى فيروس سي؟

هناك العديد من المهمات والأدوار التي تستطيع أن تلعبها، لكن في سياق موضوع العلاج، اتصور أنها تستطيع بناء رأي عام ضاغط على الدولة، من الممكن أن يدفعها إلى اتخاذ بعض الإجراءات المفيدة. الأهم، هو أن هذه الجمعيات تستطيع أن تقدم نماذجا للحلول التعاونية من خلال تأسيس شركات مساهمة شعبية، يساهم فيها المرضى وكل المهتمين بهذه القضية، تحمل على عاتقها مهمة انتاج هذه الأدوية، وربما أدوية أخرى في المستقبل، وتطرحها للمرضى بأسعار التكلفة أو بأقل هامش ربح ممكن. هناك من مرضى فيروس سي صيادلة وأطباء وأصحاب خبرات إدارية وصناعية، وهؤلاء يستطيعون تبني هذا الحلم الطموح، الذي أدرك جيدا أن إمكانيات الواقع الراهنة لا تسمح بتمريره بسهولة.

طرح الفكرة وبداية حوار مجتمعي حولها، هو أول خطوات كسر دائرة استحالة تحققها، إنني ادعو الجميع.. المرضى وكل المهتمين بالشأن العام، وكل المؤمنين بدور الحلول التعاونية في التعامل مع الأزمات المجتمعية وخلق حلول لها، وكل المؤمنين بحقوق المرضى في العلاج والحياة، وكل من يراهن على إرادة وقدرة هذا الشعب في إحداث تغييرات حقيقية في حياتهم، ادعو كل هؤلاء إلى مناقشة الفكرة وتأصيلها وتعميقها ومحاولة فتح الطريق أمام إمكانيات تحققها.. لا تراهنوا إلا على أنفسكم، إرادتكم في إيجاد الحلول، وقدرتكم على صنع المعجزات…. يا مرضى مصر.. اتحدوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top