تقابلني نماذج بشريه متنوعه خلال عملي بالمستشفى أو العيادة، ويمر الطبيب يوميا بتجارب اجتماعيه وإنسانية كثيرة من خلال مرضاه. والحديث مع المرضى كبشر يحملون من المشاعر المختلفه والأحاسيس الكثيرة، ربما يكون جزءا مهما من تشخيص متاعبهم وعلاجهم، ويعطينا فكرة معتبرة عن نفسية الناس وكيفية التعامل مع مشاكلهم الصحية من منظور إنساني واسع، ولذلك يجب أن تكون علاقة الطبيب بمرضاه علاقة معنوية إنسانية في الأساس، وليست علاقة موظف يؤدي مهمة تجاه العميل، وفي هذا المقال ساتعرض لبعض هذه النماذج اللافتة التي تشترك تقريبا في دوافعها للحضور للكشف الطبي، وهي ثلاث نماذج مختلفة من شباب رجال في مقتبل العمر.
جاء لي شاب يكشف في العيادة.. يبدو كرجل وسيم شكلا ومظهرا، عندما سألته عن عمره قال لي إنه 17 سنة، وهو طالب في تالتة ثانوى.. طيب بتشتكي من إيه يا ابني؟ قال لي يا دكتور أنا مش جاي اكشف!
أومال أنت هنا ليه؟! قال لي: انا عايز أطول.. الولد في منتهى الوسامة.
ليه يا ابني.. أنت طولك كام؟
أجاب: 173 سم يا دكتور.
طيب ما أنت طويل وحلو أهو، فابتسم وقال لي: بس أنا عايز أطول أكتر.. ممكن لو سمحت يا دكتور؟
يا ابني أنت كده زي الفل، ولسه يمكن تطول طبيعي تاني 3 أو 4 سم.
قال لي: أنا عايز عشرة سم.. أصل اصحابي أطول مني، وبيضايقوني، وبعد بضعة أسئلة أخرى، فاجأته وسألته: أنت بتحب بنت أطول منك ياض؟
أطرق برأسه في الأرض واعترف: أيوه.. باحب بنت أصغر مني بسنة وطولها 177 سم.. بنت طولها 177 وفي تانية ثانوي، ويبدو أن هذه النقطه تحديدا كانت مربط الفرس الذي يدفعه للتطويل.. طبعا نصحته أن يصرف نظر تماما عن حكاية التطويل، والولد مصمم، وطلب يعمل أشعات يمكن اقتنع إني أساعده زي ما قرأ في الموضوع على الإنترنت، والولد مُصر على تطويل نفسه، وعندما وجد مني ممانعة كبيرة، طلب مني أن انصحه بدكتور متخصص في الهرمونات والغدد حتى يتعاطى بعض أدوية الإستطالة!
لا يدفع الشاب في هذا الأمر إلا حبه لفتاته فقط، ورغبته في التفوق عليها بطول جسمه فقط! هذا الشاب لا يرى في نفسه مقارنة بفتاته إلا أنه أقصر منها!
أما الشاب الثاني، فكان عمره ثمانية وعشرين عاما.. أهلا وسهلا.. إيه شكوتك يا أستاذ؟ قال لي: ضهري بيوجعني بقى لي سنة، ولفيت على دكاترة كتير، وأخيرا نصحوني بحضرتك.
طيب سلامتك.. بيوجعك إزاي ضهرك وفي أثناء النوم ولا الشغل؟
قال لي مش ضهري بس اللي بيوجعني.. ده كل أعصابي ورجلي وأكتافى.. بعد الكشف عليه، تبين أنه لا يعاني مشكلة ظاهرية، بل هو طبيعي جدا.. قلت له: مش باين حاجة.. قال: لأ يا دكتور أرجوك.. أنا عملت أشعة رنين مغناطيسي.. شوفها بتركيز من فضلك! أصلي ها اتجوز بعد ست شهور وقلقان على نفسي.
أوبا.. هذا ما يفكر فيه! المهم شفت الأشعه.. الأشعة سليمة لا يوجد أي علامات مرضية.. مبروك يا بيه مفيش حاجة.. إزاي يا دكتور.. أنا قلقان علي نفسي.
طيب.. خد مقويات وفيتامينات وتعال بعد أسبوعين.. خرج من أمامي وهو غير مقتنع.. بعدها بثلاثة أيام وجدته أمامي مع والدته، يخبرني أن أمه تعاني من خشونة في الركبة، وقد احضرها للكشف والعلاج، وبعد أن انتهت والدته من الكشف أخرجها من الحجرة، وعاد بمفرده ووقف أمامي ساندا بكلتا يديه على المكتب وقال: بالله عليك يا دكتور تطمني.. أنا هتجوز بعد ست شهور وخايف على نفسي.
يا ابني خايف من إيه.. خايف من الجواز ليه؟ هو أنت عندك ضعف؟ فرد: مش عارف.. بس قلقان.. قلت له: أنت جربت حاجة كده؟ ضحكة صغيرة منه: أنا خايف على نفسي.
خايف من إيه يا أستاذ، وبعدين أنا دكتور عظام.. روح لدكتور أمراض تناسلية! قال لي: عيب يا دكتور.. يقولوا عني إيه لو عملت كده.. أنا قلت حضرتك هاتطمني.
طيب اعمل إيه أنا يعنى؟! فهمت دوافعهـ فقررت مواصلة الحوار معه ونصحته أن لا يقلق.. الولد خايف من الجواز، وخايف من المجهول الذي سيواجهه ليلة الدخله.. هو لسه فيه كده؟!
أما النموذج الثالت فهو لشاب في العشرين من عمره.. يمارس لعبة كرة القدم في أحد فرق دوري الدرجة الأولى، وحضر للعيادة مع بعض زملائه وأخصائي العلاج الطبيعي للفريق جراء إصابته في مفصل الركبة، إثر لعبة خشنة، وبعد توقيع الكشف عليه تبين أنه مصاب بقطع في أربطة الركبة، ولم أشأ أن أخبره عن الأمر، ووجهته بعمل أشعه للتأكد من التشخيص والعودة بعد أسبوع مع وصف بعض مضادات الالتهاب والمسكنات لتخفيف الألم، وعاد الشاب بعد أسبوعين بمفرده حاملا الأشعة.. يحدوه الأمل أن يعود لمحبوبته كرة القدم غدا، ليلحق بفريقه في مباراته المهمة، حيث إنه لاعب أساسي بالفريق، وبعد الإطلاع على الأشعة ومعاودة الكشف عليه، كان الخبر الصادم.. اللاعب يعاني من قطع بالرباط الصليبي الأمامي للركبة، ومع إصراره على معرفة التشخيص علة وجه الدقة، وإخباره بذلك.. مادت به الأرض، ولم يستطع الكلام، وشعرت بجفاف حلقه، وكاد أن يسقط مغشيا عليه.
الشاب تصور أن مستقبله الرياضي قد ضاع، وأن حبه للكرة وعلاقته بها قد انتهت عند هذه اللحظه.. هدأت من روعه.. محاولا إفهامه أننا يمكننا علاج هذه الإصابة بسهولة من خلال الجراحة بالمنظار، وأنه يمكن أن يعود للملاعب وإلى حبيبته كرة القدم، لكن دون جدوى، فلديه شعور بعدم الكفاءة وضعف القدرة على استمرار علاقته مع حبيبته كرة القدم مثل صاحبيه السابقين بالضبط.. كل من وجهة نظره.. الأول يرى قصر قامته عن قامة حبيبته يقلل من استحقاقه لحبها، والثاني عنده قلق من مجهول لا يعلمه ربما يقلل من كفاءته لزوجته، والثالث لا يستوعب أنه يمكن أن يعود ماهرا في لعب كرة القدم كما كان.
كان الحديث مع المرضى الثلاثه والتواصل معهم إنسانيا سببا رئيسيا في تقليل معاناتهم الصحيه والتهدئة من روعهم، وكان له الأثر الكبير في بث الطمأنينة في نفوسهم، ولله في خلقه شؤون.
morsyatef@yahoo.com