د. عاطف مرسي يكتب: الجد واللعب فى معركة التراث

ظهرت على السطح الثقافي والفضاء الإعلامي في الآونة الأخيرة معركة حول التراث الإسلامي، خصوصا في القرون الثلاثة الأولى للإسلام، وفي ظني أن هذه المعركى المفتعلى لا أساس لها، حيث إن المسلمين المعاصرين والناس الطبيعيين يتعاملون مع كتب التراث بما يحفظ عليهم دينهم وعقيدتهم وكفى، ولم يوغلوا فيها إلا برفق، فهم لا يريدون منها إلا معرفة الحرام والحلال والعبادات.

أما ما تحويه هذه الكتب من قصص وحواديت عن رجال القرون الأولى وصراعاتهم السياسية والدينية، فلم تعد تهم أحدا إلا دارسي هذا التراث والمتخصصين فيه على سبيل أكل العيش فقط، وتطور الأمر أكثر ووصلنا للسؤال العبثي: هل الدين علم ينطبق عليه ما ينطبق على العلوم المادية، أم أنه يقين فيه من العاقل والغيبي الكثير، وهل يجب أن يتحدث في الدين حاملو الشهادات الدينية -إن صح التعبير – أم أنه يحق لكل مسلم أن يرى الدين من وجهة نظره دون وساطة من رجال دين أو كهنوت؟ وهذا الحوار الدائر حول هذه القضايا وحول ما تحويه هذه الكتب التي أهملها الناس من حواديت هي – في رأيي – مضيعة للوقت والجهد وإحياء للميت، وإشغال للمسلمين عن قضاياهم الحقيقية وقيمهم الأساسية السامية في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم التي دعا إليها الإسلام.

والحملة الحالية على الأزهر ورجاله لتنقية التراث ومنع تدريس بعض الكتب هى حملة فاشلة لا طائل من ورائها، فلو تخيلنا مثلا أن الأزهر قام بتنقية كتب التراث من كل القصص الضعيفة والحواديت غير العقلية، والفتاوى الغريبة على عصرنا وعقولنا.. هل بهذا نكون قضينا على التطرف والإرهاب؟ الإجابة: لا بالطبع، لأن هذه الكتب والأفكار البالية ستظل موجودة لدى الدول الأخرى، وستظل محفوظة في المكتبات وعلى شبكة الإنترنت.

هل بذلك نكون قد استرحنا من كل مشاكلنا واعبائنا الحياتية؟ وهل إذا فعل الأزهر ذلك في مصر، ستتبعه كل الدول الإسلامية؟ وهل سيختفي هذا التراث تماما؟ أم أن هناك طرقا أكثر نجاعة وأشد تأثيرا من مجرد حذف بعض صفحات من كتب أو تفنيد بعض روايات تاريخية لم تعد تهم أحدا؟

أعتقد أن مشكلتنا الحالية أكبر بكثير من مجرد النظر فى هذا التراث الذي تركه الناس فعلا.. المشكلة الحقيقية أنه لا يوجد لدينا مشروع فكري أو قومي يلتف حوله الناس لاستشراف مستقبلهم، فحينما لا يجد الناس مشروعا مستقلبيا يندمجون فيه، وحين لا يرون مستقبلا مفتوحا على إمكانيات عظيمة، سيرتدون للماضي.. يعتقدون في عظمته، ومثال على ذلك أنه في الخمسينيات والستينيات حيث كان فى مصر مشروع وطني معتبر.. انكمش دور رجال الدين، بل انصاعوا لفكر المرحلة.. بعضهم اضطر لعمل كتاب عن \”اشتراكية الإسلام\”، والبعض الآخر كتب واسهب كثيرا عن العداله الاجتماعيه فى الإسلام، وكانوا يستعيرون أفكار التيار الصاعد.

أما فى السبعينيات وما تلاها من عقود، وبعد أن أنفك عقد هذا المشروع القومي العربي، اضطر بعض المحسوبين على التيار العروبي لملاحقة المرتدين للماضي السحيق بالكتابة عن العروبة والإسلام، وبالرغم من قناعتي بعدم النظر في هذا التراث إلا برفق، فأنا مع تنقية التراث من كل الفتاوى الغربية التي لم تعد مناسبة لعصرنا وظروفنا الحياتية، وحتى قيم عصرنا دون إشغال العامة بهذا العمل الأكاديمي الذي يجب أن تقوم به الجامعة، خصوصا أنه يتناول كتبا مهملة بالفعل ولا يلتفت أحد إليها، إلا دارسيها فقط.. حتى المشايخ لا يتحدثون بها، لأنها لا تناسب عصرنا. معركة التراث هي معركة لإحياء الميت لا نحتاجها، ولسنا مضطرين لها.. أمامنا معارك صعبة من أجل المستقبل.. أمامنا معارك للعلم والتنمية، وحتى تلبية حاجات الناس الآنية.. التراث بتعريفه أصبح جزءا سحيقا من الماضىي، وحتى نتجاوز هذا الحوار، يجب أن يكون لأمتنا مشروع موحد للمستقبل.. يبعث الأمل والطمأنينة في نفوس الشعوب، ويستغل قدراتهم المادية والمعنوية، وموارد البلاد المادية لإنتاج مستقبل مشرق نتجاوز به هذا الماضي المتخلف دون المساس بثوابت ديننا وعروبتنا.. مشروع قائم على المبادئ العصرية من الحرية واحترام حقوق الإنسان في حياة كريمة ومشروع يبعده عن الغيبيات والجهل.. مشروع يجتمع حوله الناس.. يأخذ المجتهد فيه حقه، ولا مكان فيه لخامل أو متكاسل أو متراجع، للنهوض بمصر والأمة العربية والإسلامية.

morsyatef@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top