يسألني لارس، الأخصائي النفسي وزميلي في المستشفى، عما سأفعله في عطلة نهاية الأسبوع؛ ذلك السؤال الألماني الرسمي، الذي لابد أن تتعرض له كل يوم جمعة.
لارس شاب ألماني مهذب وطيب، يحب مساعدة الغير.. يحب التعرف على الثقافات الأخرى ومشاهدة الأفلام الوثائقية ويقرأ أخبار العالم، ويلوح الانزعاج في عينيه الخضراوين حين اتكلم عن اختلاف الثقافات؛ قناعتي أن منطق التفكير بيننا مختلف، الذوق مختلف، النقاط المشتركة ليست كثيرة كما يظن، ومحاولة الفهم – مهما كانت جادة – ستظل ناقصة، الفهم سيظل مُشوها مهما كانت النوايا صادقة. يصل به الانزعاج إلى مداه ويفلت منه التعليق المتوقع: \”هذا كلام عنصري\”.
وأنا ابتسم ولا أرد.. احترم لارس وأحبه، لكن كل محاولاته للتعرف على ثقافتي – العربية أو الشرقية – تبدو لي طفولية، وحين يسألني عن عطلة نهاية الأسبوع، أجيبه في بساطة: \”دراسة الموسيقى\”
اقول له باختصار إني أكتب رواية عن موسيقار مصري؛ بليغ حمدي، وإن جزءا منها يتطلب فهم المصطلحات الموسيقية. وينبهر لارس؛ الألمان حياتهم ميكانيكية لحد كبير، طبيعتهم الشخصية – من جهة – وقوة وحضور الدولة من جهة أخرى، أنتج شخصيات تفكر بشكل يبدو – لعيني أنا – متشابها؛ الأسئلة التي أتلقاها متشابهة في مضمونها وترتيبها، وأظن أني لو قلت لأي شخص ألماني ما قلته لـ لارس بخصوص بليغ حمدي، لكان سألني مثله بالضبط، وبنفس الترتيب: \”فكرة ممتازة، هل تكتب روايات أيضا، وهل هي منتشرة في مصر، هل تمت ترجمتها للألمانية، خسارة كان بودي قراءتها، لكن معذرة إذا لم تكن لك خبرة في الموسيقى، فلماذا لا تكتب عما تعرف، آها، هذا شغف قديم وتريد تحقيقه، مفهوم، حظ طيب، لابد أن أقرأها حين تترجم للألمانية، ابتسامة ودودة الخ الخ\”
لكن المختلف عند العزيز لارس هو رغبته الدائمة في إثبات حماسه للفهم، رغبته في التواصل، وربما رغبته أن يثبت لي أني خطأ، أني عنصري، كما يردد دائما بين الجدّ والهزل!
أصطحبه معي للبيت كما يطلب، وليسامحني الله، برغبة نصف شريرة أقرر استعراض المقامات الموسيقية العربية أمامه، لارس الذي درس السلم الموسيقي الغربي – دو ماجور كما أي طفل ألماني، يتصور فهم المقامات سهلا نظريا، تعال إذن يا مسكين، أنت في السلم الغربي لديك مسافة كاملة أو نصف مسافة بين النغمتين (دون تفاصيل تقنية – نصف المسافة هي الأصابع السوداء في البيانو، تقع في النصف بين نغمتين)، لكن لدينا في السلم الشرقي مسافة تقع بين الأصابع السوداء والأصابع البيضاء في البيانو، ربع تون، هذه لا يمكن لك أن تعزفها، ولا لأذنك أن تسمعها!
بعينيه الخضراوين التائهتين ينظر للبيانو أمامنا، يسأل، أين تقع هذه النغمة بالضبط.. أيوة كيف سأريك إياها، هي مش موجودة هنا أصلا يا بابا!
يصيبه الوجوم، وأنا – فليسامحني الله – أواصل مستمتعا، أو لعلي مؤكدا لفكرتي، اسمعهُ النهاوند على درجاته المختلفة – فرح فزا وسلطاني يقاه وبوسليك، أسمعه نغمة العشاق المصري واسأله ما إذا بإمكانه تفرقتها عن باقي ما سمعه. وفجأة يصبح الجوّ سخيفا، وتوشك الزيارة الجميلة أن تنتهي لإهانة – والعاقلُ لا يغامر أبدا بإهانة ألمانيّ، أبدا!
إنني افكر، هل يوجد مرادف ألماني لكلمة – سمّيع، معنى أو مهنةً، نحن نعرف ذلك الجيل من السمّيعة، أصحاب الأطيان والعمارات الذين كانوا يتفرغون لسماع مشاهير المطربين، يكونون ذاكرة موسيقية متنقلة، لا تشبع من الجلوس معهم لظرفهم ولتجسيدهم المعنى الشرقي الأصيل، أن الحياة السعيدة هي الفراغ السعيد. أن الجلوس في الحديقة وسماع الناي هو غاية المراد، أن العمل لعنة، عقوبة آدم أنه أكل من شجرة الخلد وملك لا يبلى، وأن سعينا هدفه الجنة، والتحرر من اللعنة، التحرر من العمل.
عندما أفحص مريض الاكتئاب – الألماني، لابد أن أسأل، هل تشعر بعدم رغبة في النزل للعمل صباحا؟ والسؤال لي مضحك، من ذا الذي يريد النزول للعمل، الكسل جميل، لا شكّ، لكنه هنا ليس كذلك، والمسألة لا علاقة بها بتقدم أو تأخر. أراه الآن اختلافا حضاريا، لا يمكن لأحدنا فهمه لدى الآخر.
أخترع كذبة وهمية، أقول لـ لارس إن الربع تون موجود في الغرب أيضا في موسيقى الميتال، وإنها تعتبر ثورية لذلك – أي كلام. أعرف شغفه بها واترك له مساحة يستعرض فيها فرق الميتال التي يحبها، تبدأ السهرة تعود لطيفة، يستعيد لارس لطفه ويقينه أن التواصل بيننا ممكن!
يا لارس يا صديقي الطيّب.. تحيّتي لك ولسماحة روحك، تحيةً على مقام النهاوند.