علي أن أبـدأ بالاعتراف بـسعادتي الشخصية بظهور فيلـم \” النجـيـب \” أخـيرا، بعد عمل جاد استغرق نحو ثلاث سـنوات! ففي شهر مارس الماضي تمت إذاعة الأجزاء الأربعة للفيلم على قناة الجزيرة الوثائقية. ومن ثم أتوجه بجزيل الشكر لكل من ساهم في هذا العمل الجميل عن أستاذنا العظيم نجيب محفوظ.
وتقديري وإعتزازي بهذا الفيلم البديع، هو ما دفعني لكتابة هذه الكلمات لبيان بعض الأخطاء الواردة في هذا الفيلم التاريخي، والذي سيبقى شهادة مهمة في تاريخ مُبدعنا الأكبر نجيب محفوظ.
ولعل أجمل ما في هذا الفيلم الطويل، هي مجموعة اللقطات الأرشيفية التي يظهر فيها الأستاذ نجيب، وهو يتحدث مع الأصدقاء، ويمشي في الشوارع، ويجلس في المقاهى، وكان يمكن لصناع الفيلم أن يُكثروا من هذه اللقطات الحية بدلا من اللقطات الممثلة بطريقة بعيدة عن الحقيقة.
وكان يمكن أن يبتعد الفيلم عن تكرار نفس الكلام، أو نفس المعاني، كما كان يمكنه أن يدقق أكثر في اختيار بعض الضيوف، لكنني لن أتوقف أمام أسماء الشخصيات التي ظهرت في الفيلم، وإنما سأركز فقط على الأخطاء الواردة في هذا الفيلم التسجيلي المهم.
يبدأ الجزء الأول بعبارة \”بين ثورتين\”، ثم يبدأ بـ 1952، بينما المقصود هو ثورة 19 ، و52. وبعد ذلك يقول أحدهم عن أستاذنا: \”إنه كان يُفكر أن يكون موسيقيا أو لاعب كرة\”، في حين أن الأستاذ كان فعلا لاعبا ماهرا لكرة القدم، وهو في مرحلة الصبا وبداية الشباب، كما أنه درس الموسيقى، لمدة عام، دراسة أكاديمية في معهد الموسيقي العربية، وتعلم العزف على ألة \” القانون\”، لكن لا هذا ولا ذاك يعني أنه فكر يوما أن يحترف أي من الهوايتين.
ثم ذكر نفس الشخص، الذي تحدث كثيرا جدا، في حين أنه لم يقترب يوما من نجيب محفوظ، ولا كان صاحب دراسات مهمة عنه، فإذا به يقول: \”لا أظن أنه تأثر بطه حسين\”، وهذه العبارة خاطئة تماما، والأدلة كثيرة، ومنها مثلا أن محفوظ ذكر، أكثر من مرة، أن فكرة \”الثلاثية\”، كرواية أجيال، جاءته بعد أن قرأ رواية \”أجيال\” لطه حسين، هي \”شجرة البؤس\”، فأعجب بها جدا، وحين جاءته جائزة نوبل قال إن أساتذته الكبار كانوا أولى منه بهذه الجائزة، وأول اسم ذكره هو طه حسين، وبعده جاء العقاد، والحكيم.
يقول الراوي في الفيلم: \”مدفوعا بنجاحه في إصدار مجموعته القصصية الأولى، انطلق محفوظ ليكتب أولى رواياته\”، وهذا مخالف للحقيقة، إذ إن محفوظ أصدر أولا رواياته الفرعونية الثلاث (عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة) قبل أن تصدر مجموعته القصصية الأولى \”همس الجنون\”، لكن التاريخ الذي وضع عليها تاريخ قديم، لأنها كتبت ونشرت متفرقة في الصحف والمجلات قبل نشر الروايات.
وقال أحدهم: \”مفتاح شخصية نجيب محفوظ نجده في عنوان أول رواية كتبها، وهي \”عبث الأقدار\”، ولديه هذه الفكرة دائما\”، وهذا خطأ شنيع بالنسبة لكل من عرف شخصية محفوظ، ولكل من أدرك عمق رؤيته الفلسفية، وحين كتب نجيب محفوظ هذه الرواية، وضع لها عنوانا آخر، هو: \”حكمة خوفو\”، لكن سلامة موسى (الناشر) رأى أن عنوان \”عبث الأقدار\” أفضل، وما كان لمحفوظ أن يخالف أستاذه، الذي أتاح له فرصة نشر كتابه الأول المترجم عن الإنجليزية \”مصر القديمة\”، ثم نشر له أيضا أولى رواياته.
يُكتب على الشاشة 1945، ويتحدث الفيلم عن الحرب العالمية الثانية، في حين أنها بدأت 1939، وانتهت 1945! ثم يقول أحدهم: \”إن محفوظ هو أول من كتب عن الشخصيات العادية أو المهمشة\”، وهذا كلام غير صحيح، فقد سبقه في ذلك روادنا الكبار، والأمثلة كثيرة في إبداعات طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وغيرهم.
وقد قال أحدهم: بعدما أنهى محفوظ كتابة الثلاثية وأعطاها للناشر عبد الحميد جودة السحار..\” والحقيقة أن عبد الحميد كاتب وروائي وليس ناشرا، وإنما الناشر هو أخوه سعيد السحار.
وقيل في الفيلم على لسان الراوي: \”إن محفوظ استمر في كتابة الثلاثية لأكثر من ست سنوات\” والحقيقة إنها استغرقت منه، كما قال، ما بين أربع وخمس سنوات.
وفي الجزء الثاني يظهر أسوأ ما في هذا الفيلم التسجيلى، من خلال وجود أكثر من شخصية من الجماعات الإسلامية المتطرفة، إذ يرددون كلمات غير صحيحة، وغير لائقة عن رواية \” أولاد حارتنا\” ، وعن أستاذنا الجليل!
فما كان يصح أبدا أن يتم تكفير نجيب محفوظ في فيلم تسجيلي عنه، وإذا كانوا – صُناع الفيلم- يريدون أن يظهروا بمظهر الموضوعية، بالسماح بنشر هذه الأكاذيب، فكان يجب عليهم أن يتيحوا لنا سماع ما قيل، ويسجلوا ردنا كاملا على كل ما قيل في حق هذا الرجل النبيل.
ومنهم من قال \”إن محفوظ حصل على جائزة نوبل عن رواية أولاد حارتنا\”، ثم قال: \”ولماذا هذه الرواية تحديدا التي ينال عنها الجوائز، والتي تترجم إلى عدة لغات؟\” وهذا جهل فاضح، فمحفوظ حصل على جائزة نوبل عن مجمل أعماله، ولم يحصل عليها عن رواية واحدة، ثم من قال إن \”أولاد حارتنا\” وحدها هي التي ترجمت إلى عدة لغات، وإنما أعمال الأستاذ نجيب محفوظ ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة.
وكان من غير اللائق أن يردد كاتب مقولة كاذبة تقول: \”إن نجيب محفوظ أشجع فنان، وأجبن إنسان\”، ولم يكن محفوظ يوما أجبن إنسان، وإنما قائل هذه العبارة لا يُدرك قيمة إبداعات محفوظ الخالدة، ولا مواقفه الوطنية المشرفة، ولا دوره الإنساني النبيل، والأدلة علي ذلك كثيرة جدا، لكن النفوس المريضة مُغرمة بتشويه الجمال، والتقليل من جوانب العظمة الإنسانية.
وفي بداية الجزء الثالث، يكتبون 13 أكتوبر 1988، ويظهر مبارك، وبجواره رئيس وزرائه فؤاد محيي الدين المتوفي في سنة 1984! ويذكرون أن محفوظ في السادسة والسبعين من عمره، بينما هو في السابعة والسبعين.
ثم يقول أحدهم عن رؤية الأستاذ نجيب السياسية: \”أعتقد أن فهمه بسيط لهذه المسائل\” وهذا جهل مركب، وتعصب أعمى يُعمي صاحبه عن رؤية عمق تحليلات محفوظ السياسية في جل أعماله الإبداعية الرائعة.
وثمة لقطة للسادات وإلى جواره رشاد رشدى، ومنصور حسن، وهو يكرم أحد الأشخاص، باعتباره نجيب محفوظ، وهذا الشخص ليس أستاذنا بالتأكيد.
وقد قال أحدهم: \”محفوظ مش من الناس المناضلين، هو من الناس اللي يفضلوا يمشوا جنب الحيط\”، فهـل من كتب \”القاهـرة الجديد\”، و\”ثرثرة فوق النيل\”، و\”ميرمار\”، و\”الكرنك\”، وغيرها شخص يمشي جنب الحيط؟!
وهناك من قال عن بعض روايات الأستاذ: \”إن الرقابة كانت تحذف ثلث الرواية، وأحيانا نصفها\”، وهذه مبالغة شديدة، إذ إن الروايات التي تعرضت للحذف هي ثلاث روايات فـقط، وهـي: \”القاهرة الجديـدة\”, و\”الحـب تحـت المـطر\”، و\”الكرنك\”، والحذف كان لبعض المقاطع، وليس لثلث الرواية، ولا نصفها.
وفي الجزء الرابع يقول الراوي: \”الأديب الذي عاش عمرا طويلا مراقبا للأحداث دونما أن يتداخل معها\”.. يعني بعد ما يتابع المشاهد ثلاثة أجزاء عن حياة مبدعنا الأكبر، وارتباط حياته الشخصية بالتطورات السياسية، وبكل ما يحدث على أرض الوطن، بل وبأحداث العالم الكبرى، وكتاباته المعبرة عن نبض الشارع المصرى، وأحلام المصريين وآلامهم، بعد كل هذا يُقال للمشاهد مثل هذا الكلام المتهافت في الجزء الأخير!
وفي نهاية الفيلم يقول أحدهم: \”قالوا لنا (أجهزة الأمن) بعد ما تخلص الجنازة الرسمية تخدوا الجثمان وتعملوا جنازة شعبية في الحسين، وقد كان\”، وهذا بالضبط عكس ما حدث فعلا، فبناء على وصية أستاذنا، ذهبنا إلى مسجد الحسين للصلاة عليه، وودعه أهله وناسه الذين أحبوه وتعلموا منه، وبعد ذلك ذهبنا إلى مسجد آل رشدان، حيث كانت الجنازة الرسمية.
ولا أحب أن أنهي هذا المقال دون أن أعبر عن أعجابي بجوانب كثيرة في هذا الفيلم التاريخى، مثل الموسيقي التصويرية الرائقة، وكثير من المشاهد المعبرة، وبعض اللقطات البديعة، ولذا أكرر الشكر لكل من ساهم في هذا العمل المهم، والذي سيبقى شهادة حية للأجيال القادمة.
وهذا الفيلم يُذكرنا بغياب وزارة الثقافة المصرية عن القيام بدورها ، فمنذ وفاة أستاذنا العظيم عام 2006 وحتى الآن، ونحن نتحدث عن ضرورة إنشاء مُتحف يليق بنجيب محفوظ، أو مركز ثقافي لفخر الثقافة المصرية، وهذا الحديث عن فيلم \”النجيب\” يجعلنا نكرر الدعوة، لعل ثمة من يُدرك أهمية الحفاظ على ذاكرة الأمة المصرية، وتراثها الحضارى.