فجأة، دبت الدماء من جديد في جثة السياسة المثلجة من ثلاثة أعوام. حركت أعينها، نظرت إلى يديها، واستعادت الذاكرة واسترجعت معها الكثير من الصخب الذي كان سبب غيبوبتها الطويلة في الأصل.
بدأت التباشير مع حراك الأطباء: جاء هادئا مدروسا ومتحديا الدولة بمهنية ومهارة -طالما غابت في ممارستنا الاحتجاجية منذ 2011- احتمى الأطباء بنقابتهم وبأهمية مهنتهم -والأهم بضرورة ضمان أمن المستشفيات- ليطالبوا الدولة بمحاسبة انتهاكات أمناء الشرطة التابعين لوزارة الداخلية. فعلوها.. دون طنطنة ولا عبارات رنانة، مستندين إلى حقهم في تمثيل المهنة الذي اكتسبوه بالانتخاب، وإلى جمعيتهم العمومية التي دعمتهم بقوة غير مسبوقة.
جاء بعدها الصخب المعتاد: أمناء شرطة يحتجون على أوضاعهم الصعبة وحقوقهم المهضومة داخل الوزارة، سائقو التاكسي الأبيض يعتصمون ضد شركتي أوبر و كريم الذين يسرقون زبائنهم، موسيقيون يطالبون بعودة نقيبهم المستقيل والغاضب على افتقاد الأخلاق والاحتشام في المهنة، ومهندسون يحاولون تكرار تجربة تيار الاستقلال بين الأطباء في نقابتهم عبر التوحد والتنسيق بين القوى السياسية المختلفة في صفوفهم لخوض انتخاباتهم الجديدة، وشباب قبطي مستاء من سجن أربعة قصر بتهمة اذراء الأديان.
فجأة، تجاهلت الدولة تطبيق قانون منع الاعتصام والتظاهر، والذي طبقته بشكل حرفي منذ ثلاثة أعوام، وغضت النظر عن مئات المعتصمين هنا وهناك، في القاهرة ومدن الصعيد على حد سواء.
للحظات استعادت القاهرة شيئا من رونقها الغائب بباقات الورد والشموع عند السفارة الإيطالية تضامنا مع مقتل جوليو ريجيني بعد تعذيبه، وبحفلات تأبين في الجامعة الأمريكية، شارك فيها الأساتذة والطلبة والإدارة، وببيانات التضامن ضد غلق وتشميع مؤسسة النديم لمساعدة وتأهيل ضحايا التعذيب، وبآلاف المقالات المؤيدة أو المنددة بالحكم على الروائي أحمد ناجي بالسجن لعامين بسبب فقرات \”جنسية\” في روايته!
لم يتوقف الحراك هنا، بل بدأ نجوم الإعلام في التسابق معه ومحاولة الشوشرة عليه: مرة بانتقاد خطاب الرئيس للتنمية في 2030 علانية، ومرة بالمطالبة بوقف ممارسات الأمن الوطني في منع بعض السياسيين من السفر دون إعلامهم بأنهم ممنوعون من مغادرة البلاد؛ ومرة بالحديث عن \” أسرار\” التقارب المصري الإسرائيلي لنيل الاعتراف الدولي بنظام ما بعد الإخوان المسلمين، ومرة بالحشد ضد ممارسات التطبيع مع إسرائيل؛ ومرة بتصوير الرسالات الموجهة على الهواتف المحمولة لأعضاء البرلمان بالقدوم لإسقاط عضوية النائب توفيق عكاشة لاستقباله السفير الإسرائيلي في منزله، مع تغطية إعلامية واسعة للخبر.
رغم هذا السباق المحموم للاستمرار في تصدر المشهد السياسي، لم ينجح الإعلاميون في احتكار النقاش العام كسابق عهدهم.
إذ ازداد الحراك صخبا بإنضمام فئة ثالثة لديناميات الحراك، وهي السياسيون المحترفون منذ تكوين جبهة الإنقاذ في 2013.
بدأ ذلك أولا بتكوين مبادرة \”جبهة حماية الدستور\”، والتي توسعت تدريجيا لتضم أسماء عامة متنوعة من الناصريين والليبراليين وأقطاب الحزب الديموقراطي الاجتماعي، بجانب أعضاء سابقين من لجنة الخمسين، معلنة أن هدفها حماية الدستور، وطرح مسودات تشريعية متناغمة مع مضمونه لعرضها على البرلمان، كما دعت المبادرة إلى اجتماع عام في 8 مارس لتوسيع قاعدتها، ولشن حملة توعية بمضمون أنشطتها في المرحلة القادمة. ومن ذات الصفوف السياسية المعروفة والمعتادة، أطلق المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي حملة باسم \”اللجنة التحضيرية لتوحيد القوى الوطنية\” بهدف صنع البديل السياسي، كما جاء على صفحته الافتراضية لإطلاق الفرصة للقوى الوطنية للاختيار بين بدائل سياسية مختلفة.
وبغض النظر عما ستثمره هذه الحراكات الأخيرة من زخم مطلوب ومن استرجاع -ولو جزئي- للطلب على المشاركة السياسية، يظل من المهم فرز قدرة كل من هذه المبادرات والتصريحات والبيانات على الضغط وتطويق تغول النظام السياسي وانفراده باتخاذ القرار الأمني والاقتصادي والسياسي بدون أية مشاورات حقيقية.
كما يظل من الحاسم اختبار ما تملكه كل مجموعة من قواعد شعبية حقيقية وخبرة في الحشد وقدرة على صياغة استراتيجية لمواجهة النظام والتصدي لحالة الحاكم الفرد وسياق البارانويا المنتشر في الخطاب السياسي.
إن مشكلة مصر الحالية والعاجلة لا تكمن في افتقاد البديل، كما يحلو للكثيرين التكرار ليل نهار، ولا في تقديم النصح والخبرة والمشورة لصانع القرار فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية والأمنية المستفحلة، إن مشكلة مصر الحالية والملحة هي انتزاع الاعتراف بضرورة إيجاد قطب للمحاسبة والمساءلة السياسية، وبحق قطاعات مهنية وفنية في ممارسة حقها الأصيل في الاختلاف وفي طرح بدائل للسياسات من وجهة نظر أصحاب المصلحة، وليس صانع القرار فقط، دون تجريم قانوني أو وصم سياسي. حتي حينه، ستستمر هذه المرحلة الجديدة من كثرة الحراك وقلة القدرة –أو النية- على التأثير، كما ستتعدد المحاولات من أعلى لإيجاد ثغرات تنفذ منها كتلة معارضة ما إلى أذن الرئاسة ومن أسفل لإسماع صوتها الغاضب من التجاوزات التشريعية والاقتصادية والأمنية.
من الممكن أن لا ينتج شيئا من هذا الزخم، لكن من المهم أن نمر بهذه المرحلة باعتبارها بدايات كسر التفويض صراحةً، أو على استحياء.