د. دينا الخواجة تكتب: شبنهاور والأساتذة المنسيون

وقعت بالصدفة منذ أسبوع علي كتاب تم تحريره بعد قرنين من موت أرتور شوبنهاور اسمه \”فن أن تكون سعيداً: خمسون درساً عن الحياة\”.

المؤلف يستدعي الخبرات الفلسفية والثقافية لكبار الكتاب لتقديم خمسين درساً للوصول إلى السعادة، أو فلنقل بشكل أكثر صراحة للخروج من العذاب.

لا أعلم لماذا استوقفني بالذات الدرس رقم ٢٧ المأخوذ من كتابات أبقراط، الفيلسوف الإغريقي، عن كيف نواجه عذاباتنا؟ يقول أبقراط (٣٤١ ق م- ٢٧٠ ق م) \”إن تأمل من يتعذبون أكثر مننا وليس فقط من هم أكثر سعادة غالباً ما يواسينا ويؤهلنا للتعامل بفعالية مع أزماتنا عند مقارنتها بحزننا، بل ويدفعنا لاحقاً للتفاعل بروح أفضل مع رفقاء المِحٓن التي نمر بها\”. بالطبع.. لم يكن يدري هذا الفيلسوف الذي مات قبل الميلاد بمئات السنين، -ولا حتي شبنهاور الذي اقتبس عصارة حكمته- أن أستاذة جامعية ما في القرن الواحد والعشرين ستتوقف كثيراً أمام هذا النص وستتذكر اسمين غالباً ما تنحيهم جانباً من ذاكرتها للبعد عن الحزن ولتجاهل المرارة، وأن تري تناقضاً عميقاً بين قرارها بتجاهل الظلم الذي تعرض له كلاهما، وبين توصية أبقراط بأن التوقف وفهم ملابسات عذاباتهما هو أحد مفاتيح طريقها للسعادة \”الحقة\”.

نعم.. قرأت هذا الدرس عشرات المرات في أقل من خمس دقائق، ولا أدري لماذا لم أتذكر بالذات الشهداء من شباب الثورة ولا الآلاف من سجناء الرأي، بقدر ما تذكرت زميلين لي من أساتذة الجامعات: عماد شاهين وعبد الله شحاته مع حفظ الألقاب العلمية.

لماذا طفا على السطح مظالم زميلين لي.. الأول تم إتهامه بدون أسانيد تُذكر بأنه اشترك في قضية تخابر بالاشتراك مع قادة تنظيم الإخوان، مع إنه لم يكن يوماً عضواً في هذه الجماعة، بل وأمضي جل سنوات عمله بين الجامعة الامريكية في القاهرة وجامعة نوتردام في الولايات المتحدة بعيداً عن كل دوائر التسييس؛ والثاني كان مستشاراً اقتصادياً للرئيس المخلوع محمد مرسي، وتم القبض عليه وتسجيل اعترافات له بتصنيع المتفجرات! صحيح، قامت الدوائر الأكاديمية ولم تقعد أياماً معدودة في الحالتين.. بادر عدد قليل من الأساتذة بكتابة بيانات للتضامن وبترشيح محامين للدفاع، لكن سرعان ما تم تجاهل الاتهامات الموجهة للزميلين للالتفات لمظالم أخرى، وما أكثرها وما أسرع وقوعها.

كان الملفت لديّ في الحالتين هو الحذر الذي تعاملت به الجامعات التي عمل بها – بل ونبغ فيها- هذان الزميلان في دعم أعضاء التدريس فيها، أو التطوع لتقديم العون القانوني اللازم لإثبات براءتهما.

فجأة.. اكتشفت أن هذه المحنة تمثل بالنسبة لي – أقسي درجات العذاب والإحساس بالقنوط- وكيف أن عقلي أوعز لي بالاكتفاء بالتوقيع على بيانات للمساندة طلباً لراحة البال.

نعم لم اشترك في حملة ضد قرار إيقاف عماد شاهين عن العمل وقطع راتبه وكل مستحقاته، وهذا على عكس مثلاً ما حدث لسعد الدين إبراهيم أثناء سنوات سجنه!

ونعم لم افعل كل ما في وسعي للرد على فيديو اعترافات عبد الله شحاته بصنع المتفجرات في باحة منزله.. لم اكتب عن آثار التعذيب على مظهره مثلاً.. لم أطالب الجامعة بالوقوف بجانبه كما فعل أحمد لطفي السيد عند إقالة وتكفير طه حسين، ولا كما ساندت جامعة القاهرة أيضاً نصر حامد أبو زيد ضد فتوى تطليقه وتكفيره.

انسحبت.. نعم انسحبت في عذاباتي أو المظالم اليومية ظناً مني أن تلك هي الاستراتيجية المثلى للتعامل مع أزمة الملاحقة والتجريم الممتدة.. فبكيت مع خبر اتهام الأول، وكتبت بوستاً على الفيسبوك دفاعاً عن حق الثاني في إجراءات عدالة جنائية سليمة ومهنية، وفي الغالب هذا كان موقف الأغلبية الكاسحة من أساتذة الجامعة الساعين للحفاظ على استقلال الجامعات عن التسييس والاستقطاب.

لكن ربما كان أبقراط أذكى وأكثر علماً مني ومنك أيها القارئ.. ربما كان له الحق – كل الحق – بأن يتأمل ما حدث في حياة هذين الزميلين والتوقف للكتابة عنهما ولرواية مظلومياتهما ولانهيار حياتهما الأسرية، هو أحد مفاتيح كسر القنوط والإحساس بالعجز بدلاً من الركون إلى التعامل مع الأزمات شخصية وكأنها الإعصار المدمر.

ادعوك إذاً يا قارئي للاقتداء بأبوقراط وبالحفاظ على ذكرى المظالم حية، وبروايتها وبنشرها وبالسعي لفهم عذابات الآخرين حتى لو كانوا من صف سياسي مضاد مثل الإسلام السياسي.

نعم.. توقف عند العذابات الأكبر حتى لو كانت لأقران يخالفونك في الرأي.. ليس انتصاراً للحق فقط وإنما سعياً لاسترداد سعادتنا من جديد. باختصار.. كن أنانيا في البحث عن سعادتك واتبع أفكار أبقراط في البحث عن الأكثر بؤساً أولاً.. ساعتها ستكسر الوقوع في شرك الرثاء للحال والإحساس بالعجز، وربما تأتي لك أيضاً بعض المواساة على ما تعتبره \”دراما القرن\”.. أقصد مشاكلك العاطفية أو المالية أو المهنية.

شكراً يا أبقراط وشكراً شبنهاور وشكرًا لفولجي الذي أعاد الحياة لهذا النص القديم غير المنشور للفيلسوف البروسي القاتم شبنهاور.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top