اهتم العديد من المراقبين والنشطاء والسياسيين بالحشد الذي نجحت دعوة نقابة الأطباء في توحيده وخروجه إلى الحيز العام، وتصويته بالإجماع لصالح قرارات مجلس النقابة، وتحول الاهتمام إلى احتفاء عام عند صدور تسعة قرارات باسم الجمعية العمومية، كان أهمها الامتناع عن تقديم أي خدمة بأجر للمواطنين في المستشفيات الحكومية، وتحويل الخدمة الطبية إلى خدمة مجانية كاملة، والإغلاق الاضطراري لأي مستشفى يتعرض للاعتداء أو البلطجة، والتهديد بتحويل أي مسؤول إداري يعيق حركة الأطباء إلى لجنة آداب المهنة، ناهيك عن التأكيد على استمرار الاحتجاج، والمطالبة باستقالة وزير الصحة، ورفض إجراءات خصخصة الصحة، وكذلك مشروع قانون التأمين الصحي الجديد.
وقد فسر الكثيرون المساندة الواسعة لحركة الأطباء بأنها بالأساس احتفاء بعودة الصوت الاحتجاجي في الشارع المصري بعد أكثر من عامين على صدور قانون التظاهر وإغلاق المجال العام وتجريم الاحتجاجات الجماعية في الدستور الجديد، فالقاهرة لم تشهد منذ عام 2013 هذه الأعداد الغفيرة في وقفة احتجاجية وتضامنية دون تعرض قوات الأمن لها، أو شن حملات اعتقال ضدها، كما أن الهاشتاج الداعي للتضامن مع الأطباء (#ادعم_أطباء_مصر) استمر يومين على قمة قوائم مواقع التواصل الاجتماعي، متعديا مئات الآلاف من التعليقات المساندة، كما ذهب آخرون إلى التأكيد على أن أهمية حراك الأطباء يكمن بالأساس في قدرته على التصعيد \”الجماعي\” في مواجهة تغول الأجهزة الأمنية وسوء استخدامها لسطوتها، بشكل يتجاوز المظالم الفردية التي يعليها المواطنون هنا وهناك منذ عامين، إثر تعرضهم للانتهاكات، سواء في أقسام الشرطة، أو في المحاكم، أو عند زيارة المساجين، أو حتى في المواصلات العامة.
فيما راهن فريق ثالث على أهمية ما يحمله هذا الحراك من مدلول عن عودة التضامن بين منظمات المجتمع المدني، بل وبعض الأحزاب السياسية بعد مرحلة طالت من الصمت والتواري بسبب تصاعد القبضة الأمنية والعنف والحرب على الإرهاب واعتبار اشتداد القبضة الأمنية ضرورة تاريخية لا يمكن معاداتها علنيا.
وبغض النظر عن اختلاف الحجج التي تم طرحها في سياق دعم حراك الأطباء، إلا أنها اشتركت جميعا في تثمين \”عودة\” الحشد وكسر الجمود السياسي الذي ساد المجال العام خارج ثنائية استرداد الدولة/ عنف الإسلام السياسي الفعلي والمحتمل، وكلها محقة في تعطشها لتمرير أصوات معارضة بدون تخوين أو تنكيل أو اغتيال معنوي لمبدأ الاختلاف السياسي.
غير أن التمعن في آليات بناء هذا الحراك ونمط إدارته وأشكال صياغته لمطالب تتعدى المصلحة الضيقة للأطباء كممارسين مهنيين، تكشف عددا من السمات المستجدة في تنظيم الحشود الاحتجاجية، تجدر الإشارة إليها واستلهام دروسها عند التفكير في إطلاق أية مبادرات جماعية مباشرة في المستقبل.
ويعد \”تأطير الضرر\” من أهم اللمحات الملهمة في حراك الأطباء، فالعنف الذي تعرض له عدد من الأطباء والممرضين في مستشفى المطرية الحكومي، لم يحاول قادة الحراك ربطه بما يحدث في الشارع أو في السجون مع ما حدث في هذه الواقعة المحددة.. بالعكس، اهتم القائمون على الحراك بالتركيز على خطر عنف أمناء الشرطة على الممارسات الطبية وحرمة المستشفيات، واستحالة أداء المهام العلاجية تحت التهديد. ولم يكتف قادة الحراك بالتذكير بضرورة سلامتهم كشرط لازم لقيامهم بمهامهم، بل ربطوه بسلامة المرضى وبأمان المؤسسات العلاجية، كل ذلك بمعزل عن المظالم الموازية للعديد من المواطنين من انتهاكات الشرطة عموما وأمناء الشرطة على وجه الخصوص، والتي تحفل التقارير الحقوقية ومواقع التواصل الاجتماعي بها بشكل يومي.
ويعد تفادي خلط الضرر المحدد عن الانتهاكات المتكررة من أول وأهم أنماط التأطير التي سعى الأطباء اليها، ونجحوا في صياغتها بشكل غير معهود.
وكما ربط الأطباء مطالبهم بالسلامة، بسلامة مرضاهم، استطاعوا إيجاد صيغة وسط بين الإضراب والاحتجاج، تمثلت في اقتراح تقديم الخدمة بالمجان سعيا لجذب تفهم وتعاطف الجمهور مع احتجاجهم، وذلك على خلاف العديد من المبادرات الاحتجاجية التي لم تأبه بكسب مساندة القطاعات الأوسع من جمهورها، سواء في حراكات العمال أو الاحتجاجات الطلابية، بل وأضاف الأطباء في مطالبهم أمرين يتعلقان بالمرضى أكثر، مما يرتبطا بالمعالجين، وهما خطورة خصخصة الصحة، وتغيير قانون التأمين الصحي.
وتمثل ثالث دروس هذا الحراك – وأكثرها فطنة في رأيي – في تفاديه ربط الاحتجاج بثورة يناير بصورة مباشرة، أو مناقشة شرعية النظام السياسي القائم من أساسه.. على العكس، انطلق الحراك من مربع الحد الأدنى، أو \”المتفق عليه\” مجتمعيا، ليناقش قضيته بعيدا عن أرضية الاستقطاب والتخوين والعودة إلى البديهيات، مثل ضرورة تقديم الدولة لعدد من الضمانات حفاظا على سلامة الأطباء والممرضين والمسعفين والمرضى سواءا بسواء، حتى لو اضطرت إلى حفظ هذه السلامة من مؤسسات أخرى مرتبطة بالدولة ذاتها.
تكثر الدروس الموحية والثاقبة في هذا الحراك، كما تكثر سماته المختلفة عما سبقه من أنماط احتجاج على مدار أعوام ثلاثة، والأمل كل الأمل أن ندرك أهمية وأثر هذه السمات في توسيع قواعد التعاطف والمساندة، وضرورة اكتساب الاعتراف المجتمعي، خصوصا في سياق جد مختلف عن سنوات الثورة الأولى بزخمها وحماسها، والذين أصبحا الآن وحتي إشعار آخر صعبا المنال.