شهدت الأيام الماضية حمله عنيفة موجهة ضد أطباء مصر، بل وشارك في هذه الحملة الممنهجة وزارة الصحة المصرية نفسها، في محاولة لتشويه أطباء مصر, كل هذا من أجل مطالبتهم ببعض الكرامة، والتي أهدرت في الأيام، بل في السنوات الأخيرة، ولعل صمت الأطباء لسنوات هو ما أعطى البعض الاعتقاد بأن أطباء مصر بلا أنياب، بالإضافة إلى عدم وجود نقابه قويه تقف بجوارهم، ما كان سبب ضعفهم.
وما أن تغيرت الظروف وأصبح لأطباء مصر نقيبا قويا وأعضاء نقابه لا يتوانون عن نصرة الحق، ومع زيادة الشعور بالظلم من عدم وجود حماية ضد الاعتداءات من قبل الأهالي، وحتى من قبل الأمن الذى هو مسئول عن الدفاع عن المستشفيات قبل الأطباء، ومن تنامى شعور بغضبة شعبية عليهم جراء اتهامات الإعلام المستمرة عن جهل شديد تارة وعن تصعيد ضدهم لتهييج المرضى ضدهم تارة أخرى لأسباب غير واضحه، قد يكون منها السعي للشهرة أو نابع عن كُره وحقد على أطباء مصر, هذا كله بالإضافة إلى تحميل الأطباء ضعف إمكانيات الوزارة وفساد بعض من فيها من مسئولين واستخدام المحسوبية وسوء التوزيع الناتج عنها، فلم يتحمل الأطباء كل هذه الإهانات، بالإضافة إلى عملهم بأجور لا تتناسب أبدا مع نظرائهم في العالم كله، والتي تقريبا لا تكفي أبسط متطلباتهم,هذا كله ساعد في ظهور التفاف الأطباء حول نقيبهم في محاوله للحفاظ على ما تبقى لهم من كرامه في وطنهم الأم مصر.
ومع اشتداد الأزمة ومحاولات الإعلام لتشويه الأطباء لا من أجل أخطاء حقيقية، وإنما مع مطالبه الأطباء بحساب أمناء الشرطة الذين تسببوا في أزمه أطباء المطرية، ومع محاولة الإعلام التغطية عليهم بحجة أنها حالات فردية (مع كثرة هذه الحالات الفردية هذه الأيام بشكل مبالغ فيه)، وشيطنة الأطباء من جهة أخرى، شعرت بغيرة على أبناء مهنتي، فقررت أن أحاول توضيح صور لمحاولاتنا كأطباء في إسعاف المرضى وبأقل الإمكانيات المتاحة لنا، وبالطبع فلا يمكنني كتابة كل ما في جعبتي من ذكريات في مجال الطب المصري, لذا سأحاول التحدث عن أخطاء بعضها أودى بحياة مرضى.
– في مستشفى رخامي فخم المداخل والمخارج في مدينة الأقصر, كان هناك مريض فشل كلوى وكبدي ناتج عن فيروس كبدي عشريني العمر, مجدول لزراعة الكلى بعد أقل من أسبوعين, كان يجرى جلسة غسيل كلوى كالمعتاد, حدث هبوط في ضغط الدم، ولأن مستشفيات وزاره صحتنا العظيمة غير مكتملة، وليس بها عنايات مركزة، اضطروا لنقله لمستشفى آخر به عناية مركزة, ولسوء الحظ، كانت تلك التي أعمل فيها بعقد خاص، رغم أنها حكومية بنيت خصيصا من أجل السياحة, كنت أتحصل على 180 جنيه جراء الـ 24 ساعة عمل، وهو مبلغ هزيل، ولكن هذا هو المتاح, أتى المريض حيث لم تتواجد لدى أبسط وأرخص أدويه الإنعاش, أرسلت ذويه للبحث عن العلاج المطلوب، فلم يجدوه، ظل المريض في تدهور، بل زادت حالته في التدهور، ولا أستطيع أن أفعل له ما أتمنى وما أستطيع, قلبي يعتصر دما عليه، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟ إلى أن توقف قلبه عن العمل، فحاولت إنعاشه يدويا، إلى أن عاد قلبه، مع يقيني التام أنها محاولات بلا أي جدوى, ووضعته على جهاز تنفس صناعي، إلى أن عاود قلبه التوقف، ولكن لم يستجب هذه المرة، ومات الشاب العشرينى.. السؤال لكل ذي عقل: هل أنا كطبيب المتسبب في وفاته، أم من يتحدثون عن عدم صلاحيه الطبيب المصري للعمل بالطب؟
– في مستشفى أخرى للنساء والولادة, مستشفى فخم المبنى حديث، أجهزة التخدير والتي مازالت مغلفة، فلم تجد من يعرف التعامل معها لمدة خمس سنوات, جاءت إلى سيدة في العقد الثالث من عمرها في حالة ولادة قيصرية، ونظرا لكوني لا أستطيع تحمل المسئولية الأخلاقية باستخدام جهاز لا يعمل منذ أكثر من خمس سنوات، فضلت استخدام التخدير النصفي, وفي منتصف العملية الجراحية انقطعت الكهرباء، والمفاجأة لا يوجد مولد كهربائي, اضطر طبيب النساء أن يكمل عمليته على ضوء الشموع حتى انتهت الجراحة, وما هي إلا ساعات قليله حتى كانت السيدة في نزيف داخلي عنيف، ونظرا لأن التمريض المصري الطفولي من مدارس ومعاهد لا يرقى أبدا للعمل الطبي، لم يعيروا السيدة أي اهتمام عن جهل، ولم يبلغوا الطبيب، معتقدين أنه ألم تابع للجراحة، إلى أن نزفت ما تبقى فيها من دماء داخليا، وأصبحت بيضاء اللون من النقص العنيف في الدم، ولأنها كالمعتاد مستشفى شكلي فقط، لا يوجد بها أي بنك للدم أو معامل، ولأن المعتاد هو تحويل هذه الحالات إلى أقرب مستشفى مجهز، والتي كانت على بعد نصف ساعة، لاقت المريضة ربها على أبواب استقبال المستشفى الأخرى.. هل المتسبب جراح النساء أم عجز الإمكانيات يا وزارة الصحة؟ من المتسبب في قطع الكهرباء، وفي عدم توافر مولدات للكهرباء؟ من المتسبب في تخزين أجهزة لم تعمل من قبل؟ من المتسبب في التوزيع العشوائي للأطباء دون النظر لخبراتهم؟ من المتسبب في عدم توافر بنوك دم؟ هل هو الطبيب يا سادة؟
– هناك في مستشفى مركزي آخر في محافظه كبرى في صعيد مصر, مستشفى قديم متهالك، كل ما يهتم به مدير هذا المستشفى هو احتضان دفتر الحضور والانصراف, مستشفى بها غرفتان فقط للعمليات على الرغم من كونها مستشفى للولادة، إلا أن بها غرفة واحدة فقط للعمليات تعمل ومجهزة، والأخرى سريرها الجراحي أصبح حطاما، فأغلقوا الغرفة بدلا من إصلاح تالفها, كان لدينا أنبوبتان حنجريتان فقط للتخدير الكلى من النوع الذى يستخدم لمرة واحدة فقط، وهو نوع رخيص الثمن, وكنا حين نريد تخدير العملية كليا نستخدم هذه الأنابيب الحنجرية لتخرج من فم مريضة وتدخل في فم مريضه أخرى بعد غسلها، في بلد تقول النسب الحكومية بأن ربع السكان فيه يحملون فيروس كبدي سي أو بي.. فهل هذه المصائب مسئول عنها الأطباء، أم وزارة اللاصحة المصرية المعنية بمكافحة العدوى؟
لم نطلب من أحد كلمة شكر.. نعمل ساعات عمل لا إنسانية بأقل التكاليف، وبأقل الإمكانيات.. بأقل الأجور على مستوى دول العالم.. نعمل من أجل إسعاف أهلنا وفقراء وطننا الغالي مصر، ومع هذا لا نلقى حتى أقل درجات الدعم والتقدير.
يا سادة أطباء مصر هربوا خارجها لمن يقدرهم ويحترمهم, لمن يحترم آدميتهم, لمن يقدر علمهم وعملهم, فهم يعملون على أغلى كائن حي خلقه المولى, على الشريك الرئيسي في تقدم الأوطان والمسئول الأول عن تعمير البلاد وتقدمها, يعملون من أجل الإنسان، فكيف لا نعطيهم حق قدرهم؟ وكيف لا نحترمهم؟
في بلادنا.. على قدر قيمة العمل يعطى التقدير، إلا لو كان العمل من أجل الإنسان, فهو أرخص ما عندنا، لهذا لا نقدر من يعمل من أجل حياته وصحته.
الطبيب هو إنسان يعمل بإنسانيته, لا يمكنه أن يرى مريضا في حالة حرجة، ويستطيع إنقاذ حياته، ولا يفعل، هو ليس بساحر ليحيي الموتى، أو يمنع الأخطاء البشرية، هو فقط عامل بشرى يحاول قدر استطاعته مساعده الآخرين, لا ننفى الإهمال من قلة من الأطباء، ولا ننفى الجهل في آخرين، وقله الخبرة في كثير من الأحيان, لكن لا بد أن نعرف جميعا أن هناك تقصيرا شديدا جدا من قبل وزارتهم في تدريبهم وتوزيع الأقل خبرة من الأطباء الجدد توزيعا عشوائيا، لا يخدم الطبيب ولا يخدم المواطنين، ناتج عن محسوبية وعن جهل وفشل في الإدارة.
يا سادة مازال أطباء مصر بخير، ولكن ينقصهم الشعور بالأمن, الشعور بالاستقرار والراحة, ينقصهم العمل في أجواء آدميه تحترمهم وتقدرهم وفقط.
ehababurahma@gmail.com