د. إيهاب أبورحمة يكتب: الطب في زمن حاتم

تابعت وغيرى اللقاء التليفزيونى لبرنامج العاشره مساء والمشادة بين الاطباء وبين أمين الشرطة، ووجب على تقديم الشكر للدكتور خالد سمير، هذا الرجل الشجاع الذى تحدث بكل احترافية وقوة، ولما لا وهو في جانب الحق، وتحياتنا ودعمنا لنقيبنا المحترم د.حسين خيرى وأعضائه على مساندة ابنائهم وإخوانهم الأطباء.

لا اخفى عليكم خوفى من الحديث والكتابة في هذا الموضوع، فكما رأينا التهمة معدة مسبقا، وهى الانتماء للإخوان، والتى اتهم بها الدكتور المسيحى الشجاع موريس جورج، حتى اصبحت فزاعة الانتماء للإخوان تطال كل معترض من قبل بعض الأشخاص، لا على السياسة ولكن على أى مشكلة كتلك التى وقع فيها أطباء المطرية والمطالبون فيها بأبسط حقوقهم (الأمن)، فليس بفزاعة الإخوان يقوم العدل، العدل يقوم وفقط تطبيق القانون على من يطبقه أولا، وعلى الجميع.

لا احب الكتابه في السياسة، فلها كتابها ومن يفهم فيها وفي ألاعيبها، ولعلى اعترف أننى ليس لى أى انتماء سياسى فأنا مصرى وفقط، مع قناعتى أن الإخوان متسببون بشكل رئيسى في حالة عدم الاستقرار التى نحن فيها، ولكنى مصرى يحلم بدولة اشعر فيها بالأمن والأمان، واشعر فيها بالمساواة، اشعر أننى مواطن فيها كما هى وطن داخلى، تحتضنني كما هى في قلبى.. احلم بوضع اجتماعى محترم كطبيب، كما هو الحال في بلدان العالم المتقدمة، بل ودول أخرى أفريقية متخلفة يحظى فيها الطبيب بمكانة اجتماعية ومادية وأدبية وعلمية محترمة.

أنا طبيب شاب، لكن شاب شعره مما حدث ويحدث، فكلما وضعت نفسى في موضع أطباء المطرية، اشعر بقلق شديد ورعب عميق من مستقبل الطب غير واضح المعالم.

ألا يكفى أننا نعمل في منظومة متهالكة بأقل الإمكانيات كما صرح الشجاع د. خالد سمير؟ ألا يكفى أننا نقابل عنفا من أقارب المرضى الذين في أوقات عديدة يحضرون ذويهم يحتضرون، ومع هذا لا يتقبلون أبدا موتهم! ألا يكفى أننا نحارب اللانظام في مجتمعنا من مرضى يقاتلون من أجل أن يسبقوا الآخرين من شدة الزحام؟ ألا يكفى أننا نتعامل في كثير من الأحيان مع أشخاص طامعة في أن نسعف ذويهم وإن كانت حالاتهم أقل حرجا من مرضى آخرين يستحقون الأولوية في تلقي العلاج؟ ألا يكفى أننا نتعامل بأقل إمكانيات، وأقل سبل الحماية من نقل العدوى للأطباء أنفسهم؟ ألا يكفى أننا نعمل أكثر من طاقتنا وبساعات عمل غير آدمية، وفي وجود دراسة وضغوط امتحانات؟ ألا يكفى أننا نعمل بلا أجر تقريبا بالمقارنة بالمهن الأخرى وأجورهم فيها، والتى لا تقارن في كثير من الأحيان بقدر عملهم ودراستهم واجتهادهم؟

هل سمعتم حديث طبيب المطرية الشاب وهو في لحظه انهيار يبكى من كثرة الضغوط؟ هل لا يوجد لدى المعترضين على الأطباء أقل درجات الرحمة بطبيب شاب يتحمل ضغوطا لا يتحملها ذو خبرة وسلطة وجاه؟ لماذا لا تحدث مثل هذه التعديات على أطباء المستشفيات العسكرية؟ مع أنهم ليسوا أفضل علما من زملائهم أطباء المستشفيات الجامعية ووزارة الصحة، لكن الفرق هو أن المريض لا يستطيع التعدى عليهم خوفا من حساب رادع، ونظرا لوجود حماية لهؤلاء الأطباء.

لا ندعى أننا الأفضل أبدا، فمنا من فقد ضميره، ومنا من باع علمه من أجل المال، ومنا من فقد الأمل ويعمل فقط كمحاولة منه للبقاء على قيد الحياة، ومنا من يعمل أملا في فرصة للهروب من واقع الطب في مصر.

لم نقل أبدا أن أمناء الداخلية كلهم فسدة، فلسنا أبدا مع التعميم، ونعلم تماما أن هناك الكثيرين منهم يعملون من أجل الله والوطن، وبالطبع جميعنا لنا أقارب من الضباط، كما أننا لا نعتبر أن كل الأطباء ملائكة رحمة، علما أن أكثرهم هربوا من ظروف الطب في مصر، وبالطبع ضباط الشرطة لهم أقارب وأخوة أطباء.. الفساد في كل مكان، وهذا حال الدنيا، فلسنا في الجنة، لكن نحلم بمحاولة الاقتراب من المثالية.. كلنا يكمل الآخر، وكلنا جنود هذا الوطن.. كل يعمل في حقله، فلا يمن أحدنا على الآخر بعمله، ولا ينتقص من الآخرين.. هذا ما نحلم به.

مؤمن طبيب شاب ساقته الظروف ليقع في مشكله لا نعرف بدايتها، ولكن بلا أدنى شك حدث اعتداء عليه وزميله في مكان عملهما، وهذا أمر مهين لا يقبله أى طبيب، كما لا نرضى لأى ضابط أو أمين شرطة أن يهان بلا ذنب اقترفه.. المشكله تعدت الطبيب لتصل إلى حد الشعور بالمهانة والاهانة لدى جموع الأطباء، حتى وصل الأمر بنا جميعا إلى عدم الشعور بالأمان، فبمن نحتمى؟ ومن يفترض أن يحمينا هو الجانى فى هذه الواقعه؟! حتى وصل الأمر إلى أن تمنى الطبيب نفسه الموت ليريح الضيوف والمتصلين، والذين انهالوا عليه بالاتهام الجاهز مسبقا، هو والأطباء الحضور في حلقة برنامج وائل الإبراشي، ومنهم الطبيب المسيحى، بأنهم طابور خامس، وأنهم من خلايا الإخوان! والأعجب أن الخبير الأمنى استنكر كلام د. خالد عندما ضرب مثلا بتعرض إخواننا من جنود وضباط الجيش لنفس الحدث، وهو ما لا نرضاه بالطبع، لكنه مجرد مثل، وللحقيقة شعرت بأنه يتعالى علينا باستنكاره للتشبيه، وشعرت بالأسف الشديد للتفرقه بين أبناء الوطن الواحد.

وما أعجب الأمر حينما رأينا المتصلين فى مداخلات تليفونية يفتشون فى آراء طبيب شاب فقد الأمل.. طبيب ليس له أى انتماء سياسي، لكن وفقط لا يحب منظر الدماء، فكفانا نراها فى غرف العمليات.. أليست حرية الرأى مكفولة للجميع بدستور بلادنا؟! لكن الأعجب أن الحضور كانوا يبحثون فى نفسه ونيته، وكأنه اصبح الآن إرهابيا، حتى إن مقدم الحلقة كان يدافع عنه، فهل الإرهابي يبكى بهذا الشكل، أو يستطيع أن يضربه شخص، ويترك حقه ويتنازل عن حقه مكرها؟! فكيف له أن يكون سجينا بين إيدى وفى سجن من اعتدى عليه؟ أفلا تعقلون؟!

حالة من الاكتئاب الشديد انتابتنى، وأنا استمع إلى هذه الحلقة العصيبة، حالة من الغضب الشديد والشعور بكسرة النفس.. شعرت بالحزن والألم، وأنا استمع لصوت شاب يئن.. صوت شاب مختنق يبكى على حاله، ولا انكر أن دموعى سالت وأنا استمع إليه، ولا افهم حديثه من شدة اختناقه. فكرت تفكيرا عميقا أنه لا مفر من الهروب والعمل بالطب خارج مصر فقط، حتى إننى افكر جديا في ترك مهنة الطب في مصر نهائيا، والأغرب أننى اعرف أن هناك أطباء آخرين يفكرون بنفس الطريقة.

طبيب يسحل في عمله، ويتم وضع الحديد فى يديه، ويقتاد إلى السجن دون ذنب.. يا للكارثة والفجيعة.

لم يطلب مؤمن والشجاعان د. خالد ود. موريس المستحيل، ولم يطلب أطباء مصر المستحيل، هم يطلبون تحقيقا محايدا يحاسب فيه الجانى، لا المجنى عليه.. الأطباء ليسوا فى خصومه مع أحد، فهم أرقى وأسمى من أى خصومة.

لا توجد خصومات لا مع ضباط الشرطة ولا غيرهم، فكلنا نكمل بعضنا البعض.. لن يستطيع أي منا العيش وحيدا، لكنه الطمع فى الشعور بالأمان وعودة الثقه بالنفس، والتى اهتزت فينا جميعا، والشعور بكرامة انهارت تحت قدمى أمين شرطة وأصدقائه.

نريد العمل فى أمن وأمان.. هل هذا بكثير على من أفنوا حياتهم فى الاجتهاد والعلم؟ هل هذا بكثير على أصحاب العلم فى بلادنا؟ فكفانا مشاكلنا وما نعانيه فى مستشفياتنا، ولا تثقلوا علينا أكثر من ذلك.. كفاية.

ehababurahma@gmail. com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top