د. أميرة علي تكتب: موسم الفتاوى الرمضانية الطبية والعنجهية الدينية

يهل علينا شهر رمضان الكريم وهو -كل سنة و أنتم طيبين- “موسم” دين ودنيا. شهر الروحانيات موسم للكثير من الدنياويات من المسلسلات والعزومات إلى الياميش والمكسرات، لكنه أيضا موسم لغسل الذنوب، فيجتهد فيه الكثيرون والكثيرات في الاستزادة من العبادات. وبما أنه بالأساس شهر الصوم ومجتمعنا متفشية فيه الأمراض المزمنة، فيهب المرضى من كل حدب وصوب باحثين عن الفتاوى الطبية الرمضانية و”رخصة إجازة الصيام”. ويكاد لا يخلو منزل في رمضان من  خناقة “أرجوك ماتصومش يا فلان لأنك مريض”، لكن فلان يصر على رأيه (بالرغم من كلام الأطباء في أحوال كثيرة)، ويضرب بصحته عرض الحائط ظنا منه أنه تقربا من الله سبحانه وتعالى.

وعلى صعيد آخر وللأسف نرى أطباء عدة يضيقون على مرضاهم الباحثين عن الفتاوى الطبية الرمضانية ويضنون عليهم برخصة إجازة الإفطار كنوع من المزايدة الدينية وتخوفا-على ما أظن- من “شيل ذنوب” من يفطر.

لمشكلة الصيام من عدمه  شقين: الشق الأول الأطباء ضحايا الإرهاب الفكري، والشق الثاني المرضى الخالطون بين قدر الثواب وتعذيب النفس.

الإرهاب الفكري والعنجهية الدينية:

لفت نظري على إحدى البوابات الإلكترونية طلب فتوى من امرأة حامل في شهورها الأولى عانت سابقا من إجهاض متكرر، وتخشى على جنينها من الصيام، لكن الطبيب أخبرها أن الصيام لا يؤثر علي الجنين (و هو كلام مغالط علميا). فرد عليها الشيخ بإنه “لا يجوز” أن تفطر إن لم يبح لها الطبيب ذلك!

وعلى بوابه إلكترونية أخرى سؤال من ابنة بارة تخشى على أمها من الصيام ١٦ ساعة، لأنها مريضة بالضغط، وشعرت بإعياء شديد ودوخة في رمضان الماضي. كانت الابنة تلتمس عند الطبيبة رخصة إفطار لوالدتها، لكن الطبيبة أبت حتى أن تنصح السائلة بمراجعة طبيبها المعالج، وردت بأنه “لا خطر على مريض الضغط من الصيام.”، بل وراحت تتغزل في فوائد الصيام لمرضى الضغط العالي، لأن “الأجواء الروحانيه الرمضانية تقلل من التوتر وتخفض ضغط الدم المرتفع”! ومن المعلوم لنا جميعا طبعا أن المصريين “بتفط من عينيهم الروحانية والسكينة في الشوارع في نهار رمضان وبالأخص مدمني القهوة والمدخنين والحرانين العطشانين والسيدات المطحونات المطلوب منهن ولائم المحمر والمشمر يوميا.”
يعلم أي طالب في كلية الطب جيدا أهميه شرب السوائل للمحافظة على سيولة الدم ومنع تكون الجلطات، كما أنه يعلم أن بعض مرضى الضغط يتناولون مدرات للبول لا يصح معها الصيام. وإن حالف هذا الطالب الحظ ودخل السنوات الإكلينيكية، فسوف يتعلم أهمية أخذ تاريخ مرضي كامل، والسؤال عن العديد من الأعراض  قبل إعطاء النصائح جزافا.

إن كانت السيدة تشعر بالأعياء فهي مما لا شك فيه ليست على ما يرام.. ما الصعوبة في أن تنصحها الطبيبة بأن تفطر إن وجدت أنها لا تطيق الصيام؟ والحقيقة أنه لو راعى الأطباء المسلمون ضمائرهم المهنية، لقالوا صراحةً أن الصيام وبالذات في هذا الجو ولهذه المدة الطويلة  (١٦ ساعه في مصر هذا العام) مشقة لا يقدر عليها إلا من هم صحتهم بمب مائة بالمائة.

الوحيد الذي يستطيع إجابة سؤال: هل أنا مكلف بالصيام؟ إجابة نهائية هو حضرتك. نعم أنت. أيها المسلم وأيتها المسلمة “السادة”، بلا عمة ولا ذقن ولا بنطال قصير ولا إجازة من الأزهر، فإن ربك الكريم لم يجعل بينك وبينه “واسطه”.. لقد قالها سبحانه وتعالى صراحةً في قرآنه: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (البقرة:286). ووسعها أي على قدر تحملها، ولا يعرف طاقة الإنسان إلا نفسه هو.. لا الطبيب المرعوب من الإرهاب الفكري أعلم بحالك منك، ولا شيخ الإنترنت رأيه مهم فيما بينك وبين ربك، فإن وجدت في نفسك عدم القدرة على الصيام لإعياء تشعر به، أو كنت مصابا بأي مرض مزمن، فقد رخص الله عز وجل  لك ألا تصوم.

لا تقتصر المشكلة على صيام المرضى والحوامل فحسب، بل يؤسفني أيضا أن أرى تفشي ظاهرة فرض الصيام من قبل الأهل على الأطفال دون سن التكليف، بحجة “تعويدهم”.. أعتقد أن اختزال العبادة للتعود، مثلها كمثل غسيل الأسنان، شئ مسئ لجوهر الدين.

وتنتشر العديد من الخرافات المجتمعية حول الصيام والإفطار ونتشربها منذ نعومة أظافرنا، فيبدأ الأطفال دروسهم الأولى في العنجهية الدينية عن طريق تصنيف صايم/فاطر، وتساعد أسطورة “الكلبة السوداء” التي تقطع مصارين من تسول له نفسه الإفطار في ترسيخ ذلك، ولمن لا يعلم فهي مصدرها أغنية “معايرة” لأطفال المدارس: “يا فاطر رمضان يا خاسر دينك.. الكلبة/القطة السودا هتقطع مصارينك.” وكانت عادة يتبعها تفتيش عن علامات الجفاف لإثبات الصيام من قرص لجلد اليد والتأكد أنه يثبت على حاله مقروصا فترة طويلة والتأكد من “نشفان” اللسان وتغطيته بالطبقة البيضاء الشهيرة المفخرة لتلاميذ الإبتدائي (وهي بالمناسبه طبقة من الفضلات والبكتريا والخلايا الميتة). والخرافة الأخرى التي صدع أدمغتنا بها مدرسي التربية الدينية، هي أن من أفطر يوما واحدا عمدا في رمضان من غير عذر، فإنه لن يجزه صيام الدهر، وإن صامه (بحث سريع على جوجل يؤكد أنه حديث ضعيف لا يعتد به على حسب كلام إبن عبد البر). والهدف طبعا من التخويف، هو ما نسميه في علم النفس الاجتماعي الـ shaming أو التعيير. وهو إلحاق الخزي والأذى النفسي بمن يكسر المعايير المجتمعية كنوع من أنواع فرض السيطرة والإكراه على التصرف بطريقة معينة، وهنا يحق علينا السؤال: بماذا نسمي من يقوم بالعبادات خوفا من أو إنصياعا لأوامر البشر وليس خالقهم؟ (راجع آيات الوعيد المتعددة للمنافقين).

الموضوع أعزائي نفسي وسلوكي بحت.. عندما يحرم فلان نفسه من شئ يرغبه بشده ليشتري به الجنة، فإنه يغتاظ من فكرة أن علان يمكنه أن يتمتع بما حرم هو منه ويدخل الجنة أيضا، مثله كمثل رجل اشترى  فيلا جميلة بمئات آلاف الجنيهات ليكتشف أن جاره اشترى مثيلتها بألف واحدة.

صوموا تصحوا؟

خرافة أخرى خطيرة، هي أن الصيام أفضل صحيا (على الإطلاق) من الإفطار، ويتشدق مروجوها بالاستشهاد بآية: “إن تصوموا خير لكم” ويقولون إن رب العالمين أعلم بما هو أصح لهم.. لا يصح أبدا أن نعتبر القرآن الكريم كتيب إرشادات صحية، ولا يوجد طبيب واحد على وجه الكرة الأرضية يستطيع أن يزعم أن الامتناع عن المياه لفترات طويلة مفيد.. كل “الدراسات” التي تعدد “فوائد الصيام” تعدد فوائد الامتناع عن الطعام وليس الماء.

والأهم من هذا كله  في الحقيقة أن استخدام “إن تصوموا خير لكم” في غير محله، والحقيقة أن هذه الآية ذكرت بعد “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.” ويطيقونه معناها يقدرون عليه، أي يقدرون على الصيام. والمفاجأة هنا أن الصيام أول ما شرع، كان المسلمون مخيرين بين الفطر والإطعام وبين الصوم، فكان الخطاب “إن تصوموا خير لكم”، موجه لمن يستطيعون الصوم ويفطرون وليس لذوي الأعذار، (وهذا ليس فتيا مني، بل هي تفسير بن باز).

الصحة -حسب التعريفات العالمية- هي ليست مجرد الخلو من الأمراض، بل هي حالة من المعافاة التامة، يستطيع الإنسان معها أن يحيا منتجا مفيدا لمجتمعه. ويضع الصوم الجسم بجميع أعضائه ووظائف أجهزته تحت وطأة ضغط شديد بسبب الامتناع عن شرب المياه، مما يؤدي لتركيز في الدم.

كما أن أي طبيب يعلم تماما أهمية (وصعوبة) ضبط النسب العلاجية للدواء في الدم والتاثير الخطير على المريض حال حدوث هبوط أو ارتفاع مفاجئ أو متكرر لهذه النسب في الدم.. العديد من الحالات تتطلب عناية شديدة في ضبط الجرعة، ولذلك يعني الأطباء دائما بنصح المرضى على المواظبة على الجرعات الدوائية في أوقاتها المحددة (ويصعب ذلك مع الامتناع عن الأكل والشرب طيلة ١٦ ساعة).  فكيف نتقبل-كمجتمع- فكرة معايرة المفطر أو افتراض أنه “بيتدلع” أو “بيستهبل”؟ وفي نطاق تخصصي ذاته -الطب السلوكي وطب أسلوب الحياة- حيث نسعى إلى علاج المرضى بدون عقاقير أو أدوية، لكن بتمرينات لتدريب النفس وضبط طريقة التفكير، نجد أن الإرهاق الشديد المصاحب لنظام الحياة الرمضاني وقلة النوم ليلا شئ لا يستهان به ويستلزم توخي الحذر. وهنا رسالتي للمرضى واضحة: إن لم تشعر بأنك على ما يرام، فإنك لست على ما يرام.. افطر.. فأنت لا تحتاج أن تستفي أحدا.. ربك أعلم بك.

وللأطباء أقول: رفقا بالمرضى، فالمسألة ليست “هل سيضر الصوم المريض ضرارا بالغا أم لا؟”، بل هي: “هل يستطيع هذا الإنسان تحمل مشقة الصوم أم لا؟”  وأرد على من يمكن أن يتشدق بدراسات تؤكد عدم ضرر الصيام على مريض كيت أو كات برد عام: (مع أنه يمكنني توضيح أوجع العوار في هده الدراسات ذاتها): ليس المجال هنا للطب المستند على دليل evidence-based medicine، لأن الله تعالى عندما رخص للمريض أن يفطر، لم يكن المرض يشخص من حكماء وفقا لتصنيفات دولية، بل إن المرض ببساطة هو اعتلال الصحة.. الله يريد بالناس اليسر فلا تضيقون عليهم في رخصه.

علموا مرضاكم أن الله سبحانه وتعالى خلق الجسد قادرا على إرسال “إشارات خطر”، عندما تعتل صحتنا يجب التوقف أمامها: الإعياء، العطش الشديد، تسارع  أو إضطراب ضربات القلب، الأوجاع المختلفة إلخ. وعلموهم أيضا أن الصيام ليس لمن هم في طور النوم أو من تحمل إنسانا ينمو في أحشائها.

بماذا أمرنا الله؟

ومن المضحك المبكي أن يصبح حديثين (“صوموا تصحوا” و”الثواب على قدر المشقة”)، جزء من الثقافة الشعبية -يحفظهما الجميع ويسعى إلى تطبيقهما- على حساب تجاهل كلام رب العالمين: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا”.

لماذا لا يركز مدرسو التربية الدينية والوعاظ و”الشيوخ” على هذه الآية أبدا؟ لأنه شئ مرعب، فإن كان الله لا يكلف كل نفس إلا قدر طاقتها ووسع قدرتها، فإن هذا يعني أننا أصبحنا لا نستطيع أن نحكم على “تدين” فلان أو علانة، وبالتالي لم نعد نستطيع أن “نتعنطز” دينيا ونزايد ليل نهار على من نظنه عاصيا.

ودعونا لا ننخدع بما قالوه لنا زمان عن أن “الثواب على قدر المشقة” على أساس أن تعذيب الذات هو أفضل طريق للجنة.. ده كلامهم هم، لكن الله سبحانه وتعالى أوضح لنا ما يريد في قرآنه الكريم في الآية ١٨٥ من سورة البقرة “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”.

عندما أراد ربنا تنبيهنا للطريق التي بها النجاة والخير والمجاهدة الشديدة للنفس -ما تم الإشارة إليه بتعبير “العقبة” في سورة البلد – فنجده يحثنا على عتق الرقاب وإطعام المساكين والأقرباء في يوم شح فيه الطعام، وكلها أعمال خيرة تهدف لعمار الكون وتعميم الخير على البشر، وليس عبادات “امتناعية”.

ويحضرني الآن وصف الله تعالى لمن تأخذه “العزة بالإثم” في الآية ٢٠٦ من سورة البقرة بأنه من “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ”. فالإثم إذن إتلاف للأرض والإنسانية وإهلاك للدنيا وإضرار وإفساد من عليها.

خلقنا الله لنعمر كونه ونفيد من حولنا، ليس لنعيش زومبيز (موتى أحياء) إستهلاكيين بلا فائدة.. عالة على الإنسانية، ولنحيا منتجين أصحاء واجب علينا الاهتمام بأجسادنا، فهي ليست أشياء مزعجة ابتلينا بها، بل هي الآداة التي نستعملها في العبادات، والمركب الذي تستعمله أرواحنا للجنة، فصونوا مراكبكم ولا تحطموها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top