د. أمل الجمل تكتب: يوم أن خلعت الحجاب على شاطئ رأس البر وأهدرت شرف المدرسة

كانت أمي تحب الحياة، والبهجة، وتحب أن أطلق شعري للريح، وأن أرتدي القصير. كانت لا تحب الزينة المصطنعة، أو التكلف، لم تعرف يوما شيئا يُدعي الماكياج، لم تكن حتى تضع الكحل في عينيها. كانت تغسل وجهها بالماء والصابون وتكتفي بالكحل الرباني. لذلك عندما ارتديت الحجاب قامت المشاحنات بيني وبينها لفترة من الزمن، وذلك لتطرفي في ارتدائه، فقد كنت أسدله على وجهي بطريقة مبالغ فيها كانت تجعلني لا أرى جيدا تعويضاً مني عن عدم ارتداء النقاب الذي مُنعت منه. وكانت تلك الفترة هي أصعب فترة توترت فيها علاقتي بأمي ومرت بأسوأ حالاتها قبل أن تعود مجددا لصفائها، وهو الأمر الذي تكرر بينها وبين أخي الأصغر أثناء مراهقته أيضاً عندما بدأ ينصت لتعليمات المدرسين من جماعة الإخوان إذ حاول فرض الحجاب عليها، لكنها لم تفعل.

اخترت الطرحة والحجاب بنفسي، وتحت تأثير الإعجاب بأفكار أو شخصيات. كانت المرة الأولى في المدرسة الابتدائي، دخلت مُدرسة جديدة للغة العربية، كانت مثل الملاك، وكانت ترتدي إيشارباً شيفون متهدل بنفس طريقة أجدادنا الفراعنة، كانت مبهرة، وفي طفولتي ولسنوات من مراهقتي كنت أميل للتجربة والمحاكاة، في الفسحة استخرجت الإيشارب الذي أحتمي به من برد الصباح، وأمام زميلاتي نجحت في محاكاة حجاب المدرسة، بعضهن صفقن وواحدة حذرتني. وبقيت هكذا لفترة لم أعد أتذكر مداها.

إلا المتمردة الجميلة

في المرحلة الإعدادية تم الفصل بين البنات والأولاد. كان لابد من وجود إيشارب على رأس كل فتاة تدخل من باب المدرسة. في أواخر الثمانينات في قريتنا لم يكن الحجاب شرطا إلزاميا للدخول للمدرسة الإعدادية، لكن المدرسين من جماعة الإخوان في كل التخصصات، رياضيات، علوم، لغة عربية، مجالات فنية ورسم، كانوا يُحاصروننا بالأحاديث الناعمة تارة، وبالترهيب من النار، وطاعة الله وحب الرسول تارة أخرى، وكثير من الفتيات تأثرن بشكل أو بآخر.. بعض الفتيات رضخن منعا للمشاكل، بعضهن اكتفت بالإيشارب لكن قمن بلف طرفه حول الرقبة منعا للكلام. إلا واحدة. فتاة واحدة كانت أنضج منا جميعا.. كان اسمها جيهان. كنت أشعر أنها بسلوكها تكبرنا بأعوام، كانت متفوقة في الرياضيات، وهي صغرى أخواتها اللائي يدرسن بالجامعة.. كن جميعهن جميلات جدا، لكن إلى جانب البياض والعيون الملونة والصوت الجميل، كن متفوقات ولهن شخصية قوية حاسمة. رفضت جيهان أن تنصاع للأوامر.. متمردة كانت وثابتة. وزاد عنادها أمام مدرس الرياضيات الذي اشترط أن ترتدي الحجاب حتى تحضر حصته.

في تلك المرة جعلها تقف طوال الحصة ووجهها ملاصق للسبورة. طلبت منه أن يسمح لها بالخروج من الفصل لكنه رفض. عندما انتهت الحصة اشتكته لمدير المدرسة، لم ينجح في فعل شيء، كانت شخصيته ضعيفة، وتمادى المُدرس في عناده، فأصر على ألا تحضر حصته إلا بالحجاب. لم تُحل المشكلة إلا بتدخل عضو آخر من جماعة الإخوان المسلمين الذي أقنع جيهان أن تكتفي بمد طرفي الإيشارب حول رقبتها المغطاة أصلا بياقة البدلة الاسموكن.

في ذلك اليوم كرهت هذا المدرس، لكني لم أكره الحجاب، كنت أفصل – رغم عقل المراهقة – بين الحجاب وسلوك البشر.. كرهته ليس فقط لأنني كنت أحب جيهان، ولأنها كانت صديقتي، لكن أيضاً لأني كنت ضد سلوكه. مع ذلك استمريت – بسبب زملائه الآخرين – وانخرطت في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين.

كنا نحضر مرتين في الأسبوع لحفظ القرآن الكريم، وتفسير الأحاديث، والإنصات إلى حكايتهم الأسطورية عن كثير من الشخصيات الدينية مثل زينب الغزالي والأكاذيب التي حقنوا رؤوسنا بها، وكانت بعض المرات الإضافية – خصوصاً قرب الامتحانات وأثناء أجازة نصف العام – تخصص لمراجعة الدروس.

في العام التالي تطور الأمر تحت تأثير تلك الأفكار – وتحت وهم رغباتي المراهقة في أن أكون مسلمة على حق وأن أكون القدوة وأنال رضا وإعجاب من حولي – فارتديت الخمار بعد أن زارتنا مدرسة منتقبة شديدة الجمال. كانت بهية، وكنا نظل جميعاً نتأمل وجهها خصوصا بعد أن تغلق الباب وترفع النقاب عن وجه يملأه الضياء، أعجبتني ملائكيتها وبهاؤها، فارتديت الخمار.

أنا وشَرَف المدرسة

وأنا في الصف الثاني الإعدادي نظمت المدرسة رحلة إلى مدينة دمياط، زرنا خلالها عدداً من معالمها، لكن لم يبق في ذاكرتي الآن سوى زيارتنا لمصنع السردين، لنرى مراحل تعليبه، ولأننا حصلنا على مجموعة معلبات هدية منه، وكان ألذ سردين معلب أكلته في حياتي. ثم اختتمنا اليوم برحلة إلى رأس البر زرنا خلالها اللسان، حيث يمتزج ماء البحر المالح بالمياه العذبة، ثم تركنا المدرسون والمدرسات لنمرح على الشاطئ لبعض الوقت، بينما انشغلوا هم في أحاديث جانبية.

كنا مزيجا من الطلبة والطالبات. وبدأنا نسير على الشاطئ والموج يتدافع موجة وراء الأخرى في شكل أثار جنوني.. خلعت حذائي وكنت أنوي فعلياً أن أكتفي بالسير بقدماي العارية في المياه، لكني لم أتمكن من مقاومة الإغراء، فتركت الشاطئ ودخلت إلى البحر أكثر.. اكتشفت أن الخمار يعوق حركة يداي وذراعي عن المتعة واللعب مع الأمواج، فخلعته بحركة تلقائية، دون أن أفكر في أي شيء آخر.. جريت إلى الشاطيء وألقيت به هناك قبل أن أعود إلى البحر بشعري الحُر.. كانت حركة مباغتة للجميع، وحتى لي أنا نفسي.

في اليوم التالي وفي طابور الصباح أخذ أحد المدرسين \”الُسنيين\” – أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين – يصرخ في الميكروفون عن شرف المدرسة الذي أهدرته بخلعي الخمار على شاطئ رأس البر.. المفاجأة أخرستني، وأصابتني حالة من الخوف والدهشة، فعقلي لم يكن قادرا على استيعاب الربط بين خلع الحجاب وبين شرف المدرسة.. أفكاري عن الشرف كانت مختلفة.. كل مخزوني المعلوماتي عن الشرف لم يكن يحتوي على أي حادثه لها علاقة بخلع إيشارب أو حجاب أو حتى خمار؟ كلمة الشرف لوحدها جعلت جسمي يقشعر، وأدركت – من أسلوب ومستوى الصوت الغاضب – أنهم لم ولن يفوتوا لي هذا التصرف.

كنت لا أجلس دقيقة واحدة في مكاني أثناء الحصص الفاضية، أي التي لا يحضرها المدرس لغيابه أو جلوسه مع أصدقائه في الشمس.. أظل أتحرك هنا وهناك، وأكتب على السبورة أو أخرج إلى المكتبة. في ذلك اليوم لم أتحرك من مقعدي. جلست كالتمثال أنتظر مصيري. كان إحساسي الدفين يتوقع خيانة وغدر، حتى في الفسحة لم أخرج إلا لقضاء حاجتي وكأنني أتفادى الجميع.

في الحصة الأخيرة وقع المحظور. كانت كثير من الفتيات تقفن هنا وهناك أمام السبورة، وعلى الباب، وفي الطرقات والأصوات عالية جداً بشكل لافت كالمعتاد. وفجأة اندفع هو كالبارودة من فوهة الباب وانهال عليّهن بالخيرزانة بحقد لا مثيل له.. كنت جالسة أرى تفاصيل المشهد. كان نفس المدرس الذي تحدث عن شرف المدرسة صباحاً، كالحيوان الأعمي، كالثور الهائج ظلت يده ترتفع في الهواء قبل أن تهبط في كل مرة بعنف على أجساد الفتيات، ثم على فتاة واحدة بالذات. استمر في ضربها في جميع الجهات. على ظهرها وساقيها وذراعيها ورأسها ورقبتها ومؤخرتها.. كانت تصرخ لكنه لم يتوقف، وكأن صرخاتها كانت تؤجج غضبه أكثر، حتى سقطت الفتاة على الأرض فتوقف عن الضرب فقط في تلك اللحظة.

هنا بدأ يفيق. لمحت نظرته المندهشة إليها كأنما رأى الآن وفقط ملامحها، كأنه أدرك أنه لم يصب مرماه، التفت فلمحني أنظر إليه.. تبادلنا الرسائل في صمت، أو على الأقل أنا. لكنه بغباء أصر على أن يكشف نفسه، أخذ يعتذر للفتاة طالباً منها أن تغفر له، لأنها لم تكن الضحية المقصودة، ثم مد يده في الهواء باتجاهي مضيفاً: \”هذه هي التي كنت أقصدها.\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top