د. أمل الجمل تكتب من "كان": تحفة سينمائية برازيلية تتفوق على "ألمودوفار".. ولا عزاء للبنان

كان الفيلم اللبناني \”ربيع\” أو \”ترامونتان\” المشارك في مسابقة أسبوع النقاد الخامس والخمسين – الموازي للبرنامج الرسمي بمهرجان كان السينمائي في دورته التاسعة والستين – هو رابع الأفلام التي شاهدتها يوم أمس، بعدها نفدت طاقتي فاستسلمت وقررت الاكتفاء والذهاب لتجديد الاشتراك الأسبوعي للأتوبيس، قبل أن أعود إلى بيتي، فقد استيقظت في السادسة والنصف صباحاً، وخرجت من دون إفطار، مكتفية بنصف كوب من الشاي الأسود، وذلك لأتمكن من الوصول باكرا وحجز مكان لي في الطابور الممتد على مرمى البصر، انتظارا لحضور فيلم بيدرو ألمودوفار \”جوليتا\” المعروض في الثامنة والنصف صباحاً.

طوال الطريق وعيوني تتبع التلال المكسوة بالأشجار والخضرة والمدرجات المسكونة بالمنازل والورود التي تطل عليًّ من شرفاتها، ظل عقلي يهمس إليًّ بتساؤل أخذ صداه يتردد بداخلي؛ تُرى هل يتمكن ألمودوفار بعد مرور أربعة عشر عاماً من تجاوز نجاح رائعته \”تحدث إليها\”، هل يقدر على تكرار هذا المجد السينمائي الذي نال به 42 جائزة، منها أوسكار أفضل سيناريو كُتب خصيصاً للشاشة الكبيرة، كما نال أيضاً 42 ترشيحا لجوائز أخرى مهمة؟

شخصياً.. أعشق أفلام بيدرو ألمودوفار، ليس فقط لأنه مسكون بعالم المرأة، وقادر على التعبير عن عوالمها، ولكن أيضاً للغته السينمائية وقدرته على الحكي الإنساني الرقيق، لكن بعد \”جوليتا\” أو \”خوليتا\” كما تنطق بالإسبانية. لا أنفي أنني استمتعت بعرض الفيلم بصرياً، وتأثرت بعدد من المشاهد المؤلمة، فهو يدور حول قصة حب عنيفة تثمر طفلة تتعلق بوالدها. يدب شجار بين الحبيبين بسبب الخيانة، ثم يموت الزوج في أعقابه، فتقطع الفتاة علاقتها بأمها وتختفي تماماً على مدار سنوات طويلة – إلى أن تتزوج وتنجب ثلاثة أطفال، وعندما يموت أكبرهم تعاود الاتصال بها – لاعتقادها أن الأم كانت السبب في موت والدها الذي خرج في أعقاب الشجار لممارسة هواية الصيد تنفيسا عن حزنه.

يتم السرد بالفيلم عن طريق الفلاش باك، لكي يتم اختزال القصة التي تدور حول جيلين، والاكتفاء باختيار الأزمنة القوية منها فقط، وذلك من خلال الأم التي تكتب خطابا لابنتها لتحكي وتشرح وتوضح فيه كل ما حدث، فنسمعها في أوقات كثيرة، ونرى بعض ما تكبته، لكن صوت الرواية لم يكن مريحاً لي، وكنت أفضل المشاهد الأدائية التي تخلو من السرد بصوتها، أضف إلى ذلك أن هذا ليس المستوى الذي توقعته وانتظرته من ألمودوفار، فرغم أهمية الفكرة عن الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير تجاه الآخرين، والتي يمكن لها أن تخلق شريطاً سينمائيا عبقريا يخلع القلوب من شدة الوجع، لكن السيناريو لم ينجح في ذلك، ولم يأت بجديد يُبهرنا، ربما باستثناء شخصية الشغالة أو المربية المثيرة للضحك أحياناً بتصرفاتها الحاسمة والجامدة الصريحة لحد القسوة والفجاجة، سيناريو سوف نتناساه سريعاً رغم محاولة الموسيقى المستمرة في التأثير على عواطف المتلقي، ورغم كونه مأخوذاً عن مجموعة قصصية قصيرة للكاتبة الكندية أليس مونرو الحائزة على جائزة نوبل والمشهورة ببنائها السردي القادر على تكسير الزمن وتشظيته بين الارتداد للماضي والعودة منه مرات ومرات بمهارة شديدة.

كلارا تنقذني من الإحباط

عقب الانتهاء من \”جوليتا\”، أسرعت لألحق بالعرض الأخير لفيلمloving   للمخرج جيف نيكولس Jeff Nichols لكن بعد انتظار نصف ساعة توقف الطابور الطويل فجأة عن التقدم لنحو عشرة دقائق، قبل أن يأتي أحدهم ويخبرنا أن الصالة أصبحت كاملة العدد، ثم تكرر الأمر مع الفيلم البرازيلي aquarius. للحظة جاءني خاطر بأنه سيكون يوم الانتظار من دون أن يُختتم بمشاهدة ما أرغب من أفلام، لكني سرعان ما نفضت ذلك التشاؤم بعيدا عني وانطلقت مسرعة لأجرب اللحاق بالفيلم الفرنسي \”رؤية العالم\” –  voir du pays – والمعروض في إطار \”نظرة خاصة\”، فجاء هذا الشريط السينمائي مستفزا لي، ليس لأنه يدور حول الإصابات النفسية التي يعاني منها الجنود الفرنسيين الذي أرسلوا إلى أفغانستان وتعرضوا للهجوم العنيف هناك، وقُتل كثير من زملائهم أمام عيونهم \”كالكلاب\” -على حد تعبير أحد الشخصيات- فللموضوع أهميته، والتي تم تناولها من قبل في أفلام عظيمة، لكن ذلك الفيلم الفرنسي جاء متوسط القيمة، وجعلني أتساءل؛ وماذا عن الأبرياء والمدنيين الذين يتم قتلهم على أيدي أمثال هؤلاء الجنود سواء في أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو أي مكان آخر من العالم تحت مسمى محاربة الإرهاب، بينما الدافع الحقيقي هو البحث عن ثروات هذه البلدان؟

بعد تلك الجرعة من الإحباط حاولت حضور العرض الثاني لفيلم \”aquarius\”، فاستمتعت بتجربة المخرج البرازيلي كليبر مندونسا فيلهو على المستوى البصري والسردي، فهو أقوى فيلم شاهدته بين أفلام المسابقة حتى الآن، والذي يدور حول كلارا الناقدة الموسيقية البرازيلية التي تبلغ من العمر 65 عاماً، لكنها تمتلك روحا شابة متمردة، وقدرة على المقاومة والصمود أمام السرطان المادي والرمزي، والفيلم يستحق مقالا بمفرده لجدارته وأداء بطلته.

بعد الغرق في عالم كلارا والتوحد مع شخصيتها، والإعجاب بقدرتها على الاستمتاع بالحياة، وبإصرارها وعزيمتها التي لا تلين في مواجهة الفساد، وبأسلوب هذا المخرج الذي يشبه نفسه ولا يقلد أحداً، خرجت في حالة انتشاء سينمائي، وشعرت بأني مقبلة على الحياة بشهية مفتوحة. شعرت بالجوع فتذكرت أنني لم أتناول فطوري، فأسرعت إلى المطعم التركي أمام محطة القطار الذي عرفني به بعض الأصدقاء، وقررت ألا أغامر بالجلوس على المنضدة الموضوعة في الشارع، وأن أتخلى عن رغبتي في الاستمتاع بالهواء الطلق خصوصا بعد تجربة أول أمس حيث تمت سرقة حقيبة أحد الزملاء أثناء تناولنا وجبة الطعام وبها 250 يورو، تجربة أصابتني بالرعب، خصوصا أنني كنت أضع كل ما يخصني من جواز السفر ونقودي وكارت الفيزا وكل أوراقي المهمة في الحقيبة التي أحملها، وتخيلت نفسي وحالي لو كانت السرقة قد حدثت معي.

ربيع

عندما دلفت من باب المطعم، استقبلتني الفتاة التونسية الرقيقة وئام بابتسامتها الصافية، فأخبرتها بطلبي، وأني على عجلة من أمري، لمحت على عضلات الوجه إيماءة عابرة تشي بالاحتجاج المكتوم كأنما تود أن تقول؛ أنت علطول مستعجلة؟ فابتسمت، وتذكرت أن عرض الفيلم اللبناني \”ربيع\” سيكون بقاعة \”فضاء ميرامار\” – Miramar Espace – والتي لا يمكن الوصول إليها إلا سيرا على الأقدام لنحو ربع ساعة وربما أكثر، خصوصا في ظل الزحام الشديد بالشارع المطل على الكروازيت والمؤدي إليها.

بالطبع.. مشاهدة الفيلم الروائي \”ربيع\” للمخرج اللبناني فاتشي بولفورجيان – الذي يتنافس ضمن 7 أفلام من تركيا وكمبوديا وفرنسا وأسبانيا وإسرائيل وسنغافورة على جائزة أسبوع النقاد – في أعقاب مشاهدة التحفة السينمائية البرازيلية، لن يكون في صالح \”ربيع\” بالمرة، مع ذلك حاولت أن أكون موضوعية وأن أنحي المقارنة جانباً، وأن أتعامل معه كفيلم قائم بذاته، فأنا متحمسة للتجربة اللبنانية ومهتمة بمتابعتها، خصوصا في السنوات الأخيرة، بعدما قدمت تجارب سينمائية متميزة على مستوى السينما الوثائقية – أو السينما العابرة للنوعية – وتكاد تكون من أكثر الدول العربية تقدما في هذا المجال حاليا على مستوى السرد والقدرة على الإفلات من إشكالية التعليق الصوتي والعثور على معادل بصري قوي، وصحيح أن الوضع على المستوى الروائي مغاير، لكنه يستحق المتابعة فبعض مخرجي الروائي يتقدمون وإن ببطء.

هنا، نحن أمام مطرب كفيف، صوته جميل، وقادر على أداء الأغنيات المنتمية لعصر الطرب الأصيل بمهارة، جاءته فرصة السفر للخارج ضمن فرقته الموسيقية، فذهب لاستخراج جواز السفر، لكن هناك في مخفر الشرطة يتم إخباره أن بطاقة الهوية الخاصة به مزيفة، ومع البحث والتنقيب والفشل في العثور على شهادة ميلاده، يصبح البديل إجراء فحص دم للتأكد من تطابق فصيلته مع والدته، فيكتشف أن أسرته ليست هي عائلته الحقيقية، وتستولي عليه رغبة عنيفة وإصرار في معرفة جذوره والوصول إلى أمه وأبيه الحقيقيين.

كان يمكن أن تصبح الرغبة في البحث عن الهوية والجذور وسيلة ذكية لمناقشة كثير من الأمور في الوضع اللبناني الذي مزقته الحرب التي تسببت في خلق جيل ضائع، كان يمكن أيضاً الاكتفاء بالتركيز على بعض الأمور التي تمنح الفيلم أبعادا وعمقاً اجتماعيا وإنسانيا، خصوصا أن هناك عدة جولات بالسيارة في الجنوب والشمال اللبناني، وهناك أحاديث وحوارات عن ملاجئ تبنت ضحايا الحرب، وعن شخصيات من الأرمن، لكن لا شيء من الثراء والعمق بهذا الشريط السينمائي إذ اكتفي المخرج المؤلف بالبعد السطحي والمباشر جدا للعمل.

وحتى الآن يبقى الفيلم المصري \”اشتباك\”، والتونسي القصير \”علوش\”، وشريط الفلسطينية مها حاج \”أمور الشخصية\” – رغم تموله الإسرائيلي –  أقوى الأفلام العربية في كان التاسع والستين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top