الأصدقاء القريبون مني جدًا، وهم قلة، ربما لن يتجاوز عددهم أصابع اليد، كانوا على علم بما أصابني في الفترة الماضية، فعلى مدار ما يقرب من شهرين ونصف الشهر توقفت عن الكتابة، أو أصابني \”اعتقال الكاتب\” كما وصفه د. شريف حتاتة.
أصابتني حالة من عدم الرغبة والعزوف تمامًا عن الكتابة النقدية، وعندما تواجد الحنين والرغبة كنت أفشل في الكتابة، وفي أوقات كثيرة جدًا كنت في حالة \”كره\” لفعل الكتابة. وبصدق شديد امتد هذا الشعور إلى الوسط النقدي أيضًا. انتابني إحساس بالغضب العنيف، وندم بأنني مارست تلك المهنة. تمنيت لو عاد بي الزمن لاختار مهنة الطب -التي كانت مستبعدة تماما من أحلامي منذ الصغر، (ربما لاحقًا أوضح لماذا الطب؟ ولماذا الندم على النقد؟)
شرف واثنين آخرين فقط من الأصدقاء يعلمون تمامًا أن الكتابة بالنسبة لي \”ليست مجرد فعل مقاومة\” -مقاومة مادية ومعنوية- ولكنها \”حماية من الجنون\”.
رغم تلك الحالة كنت حريصة على الذهاب إلى السينما بشكل مستمر،
كان شريف يسألني في كل مرة: \”هتشوفي فيلم علشان تكتبي عنه؟\”
أرد باقتضاب: \”لا.. السينما بالنسبة لي الآن علاج نفسي\”
قبل عيد الأضحى فقط بيومين ويوم العيد كنت أقول: \”نعم سأكتب نقد ثانية\”، وشاهدت ستة أفلام مصرية لأكتب عن بعضها. لكني لم أكتب. لم أقدر على الكتابة. وزاد كرهي ومقتي لفعل الكتابة النقدية.
كانت -باستثناء فيلم أحمد حلمي \”لف ودوران\”- أفلامًا سيئة رديئة مليئة بالابتذال والسطحية وترهل الإيقاع. كان فيلم \”لف ودوران\” فيلما عائليا لطيفا خاليا من السفه والابتذال، لكنه لم يكن عملا مبهرا ليفجر بداخلي رغبة قوية للكتابة. فعدت لمشاهدة الأفلام الأجنبية بين حين وآخر.
كنت أهرب إلى قاعات العرض السينمائية من حصار العجز عن الكتابة، لكن للأسف لم تكن المشاهدة وحدها قادرة على تفعيل تلك التعويذة السحرية لحمايتي.
كانت المشاهدة حلا مؤقتا، قصير الأجل، يسرقني من الواقع طوال ساعتين، لكنه لم يخلصني أبدا مما تراكم داخلي من الرفض والغضب.
للكتابة تأثير آخر. ربما كليهما يُشبه \”فعل الحب\” لكن أحدهما -أقصد المشاهدة- تظل \”حبا غير مكتمل\”، \”حب مبتسر\” أو بوصف أكثر دقة؛ المشاهدة السينمائية بالنسبة لي \”حب لم يصل للأورجازم\”.
الكتابة وحدها كانت هى \”فعل الحب المكتمل\”.
كنت أتحدث عن الأفلام وأحللها مع شريف شفهيا، فألمح عينيه تبرق قبل أن يقول: \”يعجبني حماسك للسينما يا أمل، لازم ترجعي تكتبي\”
لن أدعي أنني استسلمت. حاولت وفشلت. شاهدت فيلم \”Sully\” مرتين، ولم أنجح في الكتابة، فقط أحكي مع شريف، لكن عندما أقرر أن أجلس للكتابة، فلا شيء! حاولت أيضًا توريط نفسي في مشاريع لأنتشلني من حيز الطاقة السلبية، أو لأفرغها بعيدا عني، لكن للأسف كل المشاريع لم تنجح، أو تأجلت، أو أنا تحججت بالأعذار لكي \”أخلع\” من بعضها عندما لم ترقني المعاملة ولا مستواها.
المهم أن الأصدقاء الداعمين لي- والذين اندهشوا لغيابي واهتموا بي وسألوا عني- حاول كل منهم جاهدًا ًمشجعًا محمسًا إياي أن أعود، لكن في حالتي لم يكن الأمر يتوقف على حقنة تشجيع خارجية أو مادة منشطة -رغم أهميتها الكبيرة- في حالتي كان لابد من قرار داخلي، وصدقًا لا أعرف لماذا تأخر؟ ولماذا حُسم في لحظة معينة دون غيرها. ليس لدي يقين تام، كلها تخمينات. ربما الأشياء جميعها تفاعلت في لحظة ما ووصلت إلى ذروتها يوم الجمعة الماضية 14 أكتوبر بعد قراءة مقال الناقد والصديق العزيز الأستاذ إبراهيم العريس في جريدة الحياة اللندنية عن سؤال النقد.
يومها سألني شريف: هل يوجد شيء بصفحة السينما؟
فأجبته: \”مقال عن النقد لأستاذ إبراهيم\”، فقرأه.
في صباح اليوم التالي أثناء وجبة الإفطار، أصر شريف على إعادة فتح قضية \”اعتقال الكاتب\” بحجة مناقشة مقال أ/ إبراهيم. كان يتكلم بحزم وإصرار على أن أعود للكتابة، وألا أضيع الجهد الذي بذلته طوال السنوات الماضية فبنيت من خلاله اسمي كناقدة لها خصوصية. ربط بين حالته الصحية وعزوفي عن الكتابة. لم أعد أتذكر كل ما قاله. كنت منهكة من كثرة البكاء. تورمت عيناي وانتفخت، وفي لحظة معينة لم أعد قادرة على تحمل المزيد.
كان الكلام يضغط على أعصابي، فتركته وانتقلت للغرفة الأخرى. وهناك بقيت أمام الشباك أحملق في الشارع ولا أراه، حتى جاء شريف إليَّ، وبهدوء ورقة استأنف حديثه ونصائحه.
كانت كل جملة يقولها كأنها تلمس جرحا بداخلي، كأن الكلمات تضغط على \”دِمِّل مليء بالمِدة\” لو كنتم تعلمون.
بعدها بيومين التقينا أنا وشريف بصديق عزيز وجلسنا لما يقرب من أربع ساعات، فأعادا سويا فتح النقاش حول \”اعتقال الكاتب\” وتبادلا الأفكار والتساؤلات عن مدى إمكانية عودتي، ما الذي يكسر تلك الحالة، ويرفع من نسبة نجاح المحاولة؟ كلٌ قدم اقتراحاته. وفي البيت أخذ شريف يبادر بمساعدتي في مهام البيت، فنحن الأثنين لا نعتمد على أحد ليساعدنا في أمور ترتيب البيت أو الطهي أو التنظيف، وأنا خلال تلك الفترة كنت أحيانًا أنشط في البيت وأحيانًا لا أرغب في فعل أي شيء وأُهمل الأشياء كأنني مريضة أو أعاني بوادر اكتئاب.
كان يفاجأني بالقيام بأشياء أعرف أن فيها مشقة عليه -تنظيف أطباق تركتها لأن حالتي المزاجية طلبت تأجيلها، أو تنظيف وتلميع البوتاجاز من زيوت تناثرت عليه، أو التفكير في إعداد وجبة خفيفة لا تستغرق جهدا ووقتا، أو محاولة تطبيق الملابس التي جفت على المنشر، أو إحضار الجاروف والفرشاة لتجميع بعض الأتربة ظهرت أسفل الشباك. أو دعك بعض البلاطات بالحمام، أو تنظيف الحوض.
كان يختلس الوقت الذي أخرج فيه لشراء أي شيء أو قضاء مهمة خارج البيت ويُنجز ما قرر أن يفعله حتى لا أمنعه.
كنت أعلم جيدًا أنها أشياء تحتاج أن يبذل جهدًا مضنيًا ليقوم بها في ظل ظروفه الصحية الحالية. وكنت أعلم لماذا يفعل ذلك. كان يحاول أن يُوفر لي بعض الوقت لأتفرغ للجلوس أمام الكومبيوتر ولأعاود الدق على حروفه، ليُتاح لي الوقت الذي أحتاجه في عملي لأني كائن يحتاج لكثير من الوقت ليكتب مقال أو دراسة، فالكتابة ليست سهلة بالنسبة إلي.
شعرت بالخجل من نفسي، وقارنت بيننا، وهنا فقط قررت ألا أخذله، ألا أجعله يشعر بالقلق عليَّ، لأنه يستحق أن يشعر بالاطمئنان.