لابد أن أعترف أنه عندما أشاهد فيلما مصرياً من تلك النوعية التجارية المسيطرة حالياً والتي تتصدر شباك الإيرادات غالباً ما تصيبني تقلصات وآلام حادة في المعدة يُصاحبها شعور متواري قليلا بالخوف. يحدث هذا مع الأفلام المصري وليس الأجنبي لأن أي فيلم أجنبي مهما وصلت ضحالته فلن ينافس الضحالة والابتذال الموجود في بعض الأفلام التجارية المصرية. وسبب التقلصات والخوف الذي يصيبني ليس مصدرهما فقط الثلاثين جنيه ثمن التذكرة -لأني من عشاق الحفلات الصباحية بعيداً عن الزحمة وثمنها أرخص بعشرين جنيه لأني أرفض حضور أي من العروض الخاصة وأفضل شراء تذكرة الفيلم من حر مالي- لكن أيضاً بسبب الوقت الذي أضعته والابتذال الذي أصبحت – بسبب احترامي لعملي كناقدة محترفة – مضطرة لأن أكمله حتى النهاية مثل \”شربة\” زيت الخروع، وربما أسوأ.
عندما ذهبت لمشاهدة فيلم \”أبو شنب\” بعد انتهاء الزحام عليه أحاطني شعور ظريف جدا وأنا أشاهد تنويهات الأفلام الأجنبية التي تسبق عرض الفيلم، وكان أهمها برومو \”me before you\” انتابني إحساس في تلك اللحظات القليلة أنني صرت مبتهجة ومُقبلة على الحياة، وأن الأمل عاد إليَّ بأني ممكن أعمل حاجات حلوة وشعرت بأني أنفض اليأس عني. أعادت إلي اللقطات السريعة من الفيلم الرومانسي تفاصيل من علاقتي بزوجي، وقررت إني أشجعه – رغم مرضه – أن يتحامل على نفسه ويخرج لنشاهد الفيلم سويا. وقررت أن أُعيد التفكير في طلبه مني بأن نكتب تجربتنا سويا خصوصا في فترة مرضه الأخيرة وبقائنا بالمستشفى لفترة طويلة وتأمل مشاعرنا نحن الأثنين. لكن للأسف أول ما بدأ فيلم \”أبو شنب\” وبعد مرور وقت قليل تبخر كل أثر للبهجة، وحسيت أني أنكمش في مقعدي، وبدأت التقلصات تظهر كالمعتاد وتزداد قوة مع توالي اللقطات.
لابد أن أعترف أنني أثناء التعاطي مع هذه النوعية من الأفلام أشعر أن عملي بالنقد السينمائي أفسد عليًّ حياتي، ونغص عليًّ الأيام، لكن لابد أن أعترف أيضاً أنني أثناء مشاهدتي لفيلم \”اشتباك\” رغم أني شاهدته ثلاث مرات، اثنتين أثناء عرضه بالمهرجان الكاني العريق، وثالثة عندما بدأ عروضه في مصر، وفي جميع المرات ورغم أن لي تحفظات وملاحظات على الفيلم، سجلت بعضها في مقال سابق على موقع زائد 18 أثناء عرض الفيلم بقسم \”نظرة ما\”، لكن أبدا لم يظهر أي أثر للتقلصات بمعدتي، ولم أندم على الوقت الذي قضيته بالفيلم في المرات الثلاث، وهذا معناه ببساطة أنه رغم أي نقد ممكن أن نأخذه على العمل، لكننا في النهاية أمام عمل ينهض على لغة سينمائية، فيه سيناريو مكتوب ومبذول فيه جهد وتفكير، ومُنفذ بطريقة فيها إنسانية حتى لو انتقدنا تلك \”الإنسانية\”، وكان بالفيلم محاولة لرسم شخصيات، وأيا كان تحفظنا على الشخصيات – بأنها لم تكن معبرة تماما عن قطاع الثوار في 30 يونيو أو كافة شرائح المجتمع المصري – أو حتى لو اعترضنا على مواقفها، لكنها ومع ذلك تم رسمها وتصويرها بشكل وإيقاع سينمائي جيد، متوازن، وكذلك الموسيقى تم توظيفها بشكل مؤثر ويُضيف كثيراً للحالة الشعورية، بل يصعب أن تشاهد الفيلم بدون أن تنتبه للموسيقى التي تلمس الوجدان رغم أنها لا تتردد كثيرا بالفيلم. هنا نحن أمام عمل سينمائي حقيقي، أما الاختلاف معه أو ضده فتلك قضية أخرى ليس مجالها هذا المقال.
التفكير العنصري ومعز مسعود:
أحد الانتقادات الموجهة للفيلم ترجع لوجود الداعية الإسلامي معز مسعود كأحد الأطراف المصرية المشاركة في إنتاج \”اشتباك\”. وكان مجرد ظهوره على السجادة الحمراء في \”كان\” مع فريق عمل الفيلم أحد أسباب الهجوم من الكثيرين حتى قبل أن يشاهدوا الفيلم، واعتبروا أن ذلك دلالة على انحياز الفيلم للإخوان طالما شارك في تمويله رأسمال مدفوع من خزائن داعية إسلامي، ثم توالت حملات تخوين المخرج وصناعه إلى حد استخدام الكلاشيه القديم \”الفيلم يسيء إلى سمعة مصر\”، لأنه يتضامن مع فكر الجماعة المحظورة. طيب، فلنفترض أن كل ما سبق صحيح.. فما هي الخطورة؟! أين المشكلة؟! هل هو الخوف على صورتنا أمام العالم؟ هل العالم سيغير تفكيره تجاه مصر بسبب هذا الفيلم؟ هل كل ما أُذيع من فيديوهات ورسائل إخبارية مصورة عن فض اعتصام رابعة لم يصل للعالم بعد؟!
نعود للهجوم العنيف والتهم السابقة التي تُؤكد أمرين؛ الأول أن الأغلبية -وأقصد مَنْ انتقد الفيلم وهاجمه بدون موضوعية- لاتزال تُمارس دور الرقيب، بل في تقديري أن هذه المجموعة تُمارس فاشية وتحاول أن تمنع أو تُصادر على ظهور فيلم سينمائي يختلف مع معتقداتها وأفكارها، والكثيرون يُمارسون هذا الدور الخطير للأسف من دون أن يشاهدوا الفيلم، فحتى لو كان ذلك العمل السينمائي يحمل بالفعل فكر الجماعة المحظورة وينتصر لها، فالمفروض إذا كنا صحيح نطالب برفع الرقابة أو تحجيم دورها فعلينا أن نقبل بالرأي الآخر، حتى لو كان هذا الرأي ضد أفكارنا أو يُهاجمنا، وإلا فما هو معنى \”الديموقراطية\” التي تتغنون بها ليل نهار؟!
الأمر الثاني؛ أن التهم السابقة تُؤكد على سيادة التفكير النمطي العنصري الذي يصنف أي فرد ينتمي لهذا التيار -حتى لو كنا ضده سياسيا- على أنه غير قادر على أن يكون موضوعيا، وغير قادر على أن يصنع فناً يناقش قضاياه بقدر من النزاهة، للأسف على ما يبدو أن الأٌقلية القليلة جداً فقط هي القادرة على ضبط النفس وتقبل الآخر، وأن نسبة كبيرة من الطرفين المتناحرين في المجتمع لاتزال تتعامل بمنطق \”إما أن تكون معنا أو ضدنا\”.
إضافة إلى عدم قبول فكر الآخر، فلنفترض أن الفيلم بالفعل يحمل فكراً إخوانياً، فماذا سيُضير المرء لو شاهد هذا العمل وتأمله ثم ناقشه وقام بالرد عليه وكشف زيفه ومغالطاته سواء بمقال أو حوار تليفزيوني أو حتى كتاب أو صناعة فيلم؟! ولنفترض أن الفيلم بالفعل ضد ثورة 30 يوليو أو ضد ثورة 25 يناير، فما هي المشكلة أن يكون الفيلم ضد الثورتين؟ هل وجود عمل سينمائي ينتقد الثورة والثوار أمر غير مشروع وحرام؟ كلنا نعرف أن الثورتين وقعتا في كثير من الأخطاء، والذي يُنكر هذا مريض نفسي يحتاج لعلاج فوري! هل انتقاد الثورة التي حادت عن طريقها أمر يشبه \”تحريم تجسيد الأنبياء والرسل على الشاشة\”؟! إن عاجلا أو آجلاً سيتم تقييم الثورتين في عمل سينمائي على أيدي سينمائيين حقيقيين، وسواء شئنا أم أبينت، سيكشف التاريخ الأيدي الخفية وغير الشريفة التي لعبت دوراً في إخفاقهما، وسيتم فضح الخونة والعملاء من الطرفين.
ولازال يشغلني تساؤل: عندما يُصنع عمل فني ينتقد ثورة 30 يونيو أو 25 يناير، فهل نتوقع أنه سيهدم المجتمع؟ هل سيعيد الإخوان إلى سُدة الحكم؟ وماذا نقصد تحديداً بتشويه صورة مصر والإساءة إليها أمام العالم؟
وأخيراً، أطرح تساؤلاً على الرافضين المهاجمين للفيلم:
الأسلوب الوحشي الذي تم به فض اعتصام رابعة عندما يتم عمل فيلم سينمائي عنه.. كيف يمكن أن نتخيل هذا الفيلم؟ هل لأي إنسان يمتلك قدرا من الإنسانية يمكن أن لا يتعاطف ولو قليلاً؟! هل يا ترى مَنْ يُحسبون على النظام وعلى ثورة 30 يوليو من جموع الفنانين والمبدعين قادرون على معالجة مأزق الشعب المصري مع الإخوان بموضوعية لا ينقصها النزاهة والشرف في الخصومة؟