\”بقينا خمسة أيام نصور في علبة في المياه في درجة حرارة تحت الصفر. كانت ظروفا قاسية وصعبة جدا التي عملنا بها لتصوير الجزء الخاص بالمركب في إسبانيا\”
هذه بضع كلمات صرح بها مدير التصوير المصري أحمد عبد العزيز عن تجربته في \”البر التاني\” الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الثامن والثلاثين وانطلقت عروضه التجارية في 59 دار عرض بالقطر المصري.
لكن اللافت رغم كلمات مدير التصوير أن المتلقي لم ينفعل ويتجاوب مع الفيلم، ولم يهتز لمأساة هؤلاء الضحايا لسبب بسيط للغاية، أن السيناريو لم يُتح لنا فرصة للتماهي مع هؤلاء الشباب، وظل عملا سطحيا على مستوى الكتابة والإخراج، ولم يشفع له التصوير والمؤثرات البصرية المزودة بالخبرة الأجنبية، وهذا يثبت من جديد أنه ببساطة قبل أن تفكر في التكنولوجيا وتوظيفها بكل ابهارها وتطورها داخل العمل، فكر أولًا كيف ستحكي عن البشر بإنسانية.
– مؤلفة فيلم \”البر التاني\” السيناريست زينب عزيز في أحد حواراتها التليفزيونية قالت إنها \”أثناء مشاهدة العرض الأول بالأوبرا بكيت ثلاث مرات على حوارات بعض الأبطال، وهو دليل على أن ما كتبته كان مؤثرًا\”
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ إذا كان الجمهور والنقاد لم يعجبهم الفيلم ولم ينفعلوا به، فلماذا بكت السيناريست أثناء العرض الأول؟ هل لأنها رأت العمل يخرج أخيرا للنور بعد أن فقدت الأمل في العثور على المنتج، ثم تحققت المعجزة عن طريق منتج يرغب في أن يكون نجمًا سينمائيًا ولم يكن لديه أي مانع من دفع 6 ملايين تضاعفت بقدرة قادر إلى ما يزيد عن 25 مليون جنيه؟ أم لأنها فجأة جاءتها فرصة ذهبية لعرض فيلم من تأليفها في دار الأوبرا المصرية وفي المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي؟ أم أنها بكت لسبب آخر لا نعلمه؟
وللتوضيح؛ أنا أطرح سؤالا بريئا جدًا لأني شخصيًا لم أبك ولم أنفعل وبعد سؤال كثيرين ممن شاهدوا الفيلم، لم نجد أي مشهد يمكن أن يجعل المتلقي يبكي بسببه، فبحق السموات نريد أن نعرف لماذا بكت السيدة زينب عزيز؟
– تيمة فيلم \”البر التاني\” قضية تشغل بال كثير من الدول في مختلف القارات، بدءًا من الدول العربية بآسيا وأفريقيا مرورا بالقارة الأوروبية، وكذلك الدول الآسيوية خصوصا الهند والفلبين وأندونيسيا، ومرارة تجربة مواطنيهم مع بعض الدول الخليجية، ولا يبعد الأمر عن الأمريكيتين، فالهجرة غير الشرعية قضية عالمية، تناولها العديد من المخرجين في الشرق والغرب، فما أكثر الأفلام المغاربية والسورية التي دارت حولها، وعلى مدار أكثر من عشرة سنوات وهناك فيض من أفلام تركية وفرنسية وإيطالية وبلدان أخرى تطرح حكايات مرعبة عن أبطالها، منها أفلام روائية وأخرى وثائقية، لكن لكل دولة خصوصية، لكل ناس أسبابهم في الخروج والهروب، المصري غير السوري، غير المغربي، مع ذلك تظل الأفلام الأوروبية عن تلك القضية هي الأهم والأبرز، فيلم \”مرحبا\” الفرنسي أثار ضجة كبرى في مجلس النواب وقت عرضه، وهو الفيلم الذي أنتج عام 2009 لكن ما أن يعيد المرء مشاهدة لقطة واحدة لبطله الصبي العراقي حتى تدمع العيون ويبكي القلب، لأننا بلقطة واحدة صرنا نستعيد قصته المؤلمة، وقبل أشهر قليلة ظهر نموذج آخر لفت الأنظار بقوة رغم بساطته الفنية هو الفيلم الإيطالي \”حريق في البحر\” الذي حصد الدب الذهبي للبرليناله.
– أما الفيلم المصري \”البر التاني\” فلم ينجح في العبور -لا إلى الجمهور ولا إلى النقاد– ولا يمكن تصنيفه على أنه فيلم تجاري أو عمل فني، هو شيء بلا طعم ولا رائحة، رغم أهمية القضية التي يناقشها. هنا ليس فقط مأزق الفيلم أنه اختار تيمة سينمائية تم تناولها من قبل عشرات المرات في السينما العربية والعالمية، لأنه رغم التكرار فهناك خصوصية كبيرة للتجربة المصرية، خصوصية تجعل منها قادرة على صناعة فيلم عالمي بمعنى الكلمة، أما المأزق الحقيقي لفيلم \”البر التاني\” فيكمن في أربعة أشياء؛ أنه لم يناقش القضية بعمق وصدق، واكتفى بالطبقة الأولى من السطح الخارجي، أنه لم يبحث عن زاوية جديدة للتناول، أن السيناريو لم يقدم لنا شخصيات نتعاطف معها ونصدق أنها حقيقية ومن دم ولحم، أن المؤلفة والمخرج لم يُدركا أن المتلقي كان تقريبا يعرف جيدًا ماذا يريدان قوله ومصير أبطاله، لم ينتبها إلى أن ما كان يهم الجمهور حقيقة هو أن يستمتع بسرد الحكاية رغم كونها مؤلمة. كيف ستحكي حكاية نعرف جيدا خاتمتها. هنا تكمن المعضلة.
– أما رأيي فيما يخص أموال المنتج
فرغم كل اللغط والهجوم المُثار حول أموال منتج وبطل فيلم \”البر التاني\” محمد علي -صاحب شركة مقاولات عقارية– الذي عرض ضمن المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثامن والثلاثين، والذي انطلقت عروضه التجارية مؤخرا في 59 دار عرض –إذ قِيل إنه حاول بأمواله أن يصنع من نفسه نجمًا سينمائيًا، ففي تقديري أن المشكلة ليست في تلك الملايين التي أنفقها على إنتاج الفيلم، لأنه ما أحوج السينما المصرية لمنتجين ورؤوس أموال ضخمة تحقق المشاريع السينمائية التي تدور حول قضايا تهم الإنسان المصري، خصوصا لو كان موضوع الفيلم يتعلق بكارثة آنية مثل الهجرة غير الشرعية. الأموال ليست بيت القصيد، فهناك عدد ليس بالقليل من النجمات والنجوم عبر تاريخ السينما المصرية قدموا أدوار البطولة بأموالهم أو بأموال أزواجهم، فماجدة أنتجت لنفسها، وكذلك نور الشريف، وإلهام شاهين، ولبنى عبد العزيز أنتج لها زوجها رمسيس نجيب فحصلت على أدوار البطولة في بداية حياتها وكرست نجوميتها، وجميعهم إلى درجات متفاوتة تم استقبالهم بترحيب وكانوا نجوم شباك في فترات متباينة، من دون أن ننسى أن فن صناعة السينما في بداية نشأته في مصر قام على أكتاف السيدات اللائي قمن بتمثيل وإنتاج الأعمال السينمائية الأولى ومنهم فاطمة رشدي، بهيجة حافظ، وعزيزة أمير التي أنتجت أول فيلم مصري روائي طويل. إذن ليست المشكلة في أن ينتج الممثل لنفسه ليحصل على دور البطولة، إنما الأزمة الحقيقة فيما يخص \”البر التاني\” تكمن في أمرين؛ هل الممثل يُجيد فن الأداء ومناسب للدور أم أنه لا يصلح سوى لأدوار هامشية أو ربما أدوار الكومبارس؟ ثم يأتي الأسلوب الذي تصرف به الممثل صاحب رأس المال مع الوسط النقدي والصحافي وكيف قدم نفسه من خلال الدعاية المصاحبة للفيلم.
لذلك فإن جوهر المأزق الحقيقي الذي فجره \”البر التاني\” ليس في السؤال من أين أتيت بتلك الملايين التي أنفقتها على الفيلم الذي بدأت ميزانيته التقديرية بستة مليون وفق تصريح منتجه وبطله ثم انتهت بأن تجاوزت الـ25 مليون بسبب ارتفاع تكلفة التصوير في البحر وفي أسبانيا على حد تصريحات فريق العمل، وإنما المشكلة جاءت من التصرفات والسلوكيات والفكر الذي وراء الأموال، فالمنتج أعطى إيحاءًا للصحافيين والوسط السينمائي في مصر بأنه قادر على أن يشتري أي شيء بفلوسه، فمثلًا يجسد محمد علي شخصية سعيد أحد ضحايا الهجرة غير الشرعية، فهو ليس البطل الأوحد داخل أحداث \”البر التاني\”، ويتساوى دوره تمامًا مع دور عمرو القاضي إلى جانب ممثلين آخرين كانوا أكثر بروزا بأدائهم، لكن المنتج مع ذلك استأثر وحده بالأفيش، وتصدرت صورته دون غيره البوستر الدعائي للفيلم، ويوم العرض الأول لفيلمه بالمهرجان فوجيء الجمهور والصحفيين بنفاذ التذاكر في وقت مبكر جدا ثم اتضح أن السبب في اختفاء التذاكر هو أن المنتج اشترى ما بين 400 أو 500 تذكرة ليضمن وجود مشجعين له في قاعة العرض، ثم في المساء وعلى السجادة الحمراء ترددت أقاويل إنه أيضًا استأجر 30 مصور ليضمن أن تلتف من حوله كاميرات التصوير وذلك خوفًا من أن يتجاهله المصورون. ثم اختتمت الليلة بوقوع احتكاكات بين عدد من الصحفيين والبودي جارد التابعين للمنتج، ثم بعد كل هذا فوجئ الجميع بفيلم شديد التواضع، لتكون النتيجة والصورة التي تم تصديرها عن هذه التجربة أن صاحب شركة العقارات لم يكن همه الأول صناعة فيلم جيد عن قضية تؤرقه، وإنما حاول أن يُكرس نفسه كنجم سينمائي متوهما أنه يستطيع أن يشترى كل شيء بفلوسه.
– وأخيرًا: في أعقاب العرض الأول للفيلم بالمسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثامن والثلاثين برئاسة السيدة/ ماجدة واصف، والمدير الفني للمهرجان الناقد يوسف شريف رزق الله، انتشرت شائعات وكلام عن شبهات وصفقات، وانتقد الكثيرون إدارة المهرجان لأنهم لم يسمحوا \”للجنة المشاهدة بالمهرجان\” أن تشاهد الفيلم قبل ضمه للمسابقة الرسمية للحكم على الجوانب الفنية والفكرية لتحديد ما إذا كان يليق باسم مصر، لكن مشاهدة الفيلم اقتصرت على ثلاثة أفراد هم رئيس المهرجان والمدير الفني ونائبه، وهم الذين اتخذوا قرار ضمه للمسابقة الدولية، ولاحقًا أصدر المسؤولون بالمهرجان بيانا يهددون فيه بمقاضاة من يروجون هذه الأفكار ويُؤكدون فيه على أن: \”لجنة المشاهدة رأيها استشاري وغير ملزم\”، لكن تعليقًا على هذا الرأي ومن واقع تجربة اختيار هذا العام -خصوصا \”البر التاني\”- وكذلك من تجربة اختيار الأفلام المصرية التجارية الرديئة \”الليلة الكبيرة\” و\”من ضهر راجل\” التي أنتجها السبكي في دورة العام الماضي -والتي كانت تنظمها نفس الإدارة– فإن هذه الاختيارات غير اللائقة فنيا تكشف وتؤكد ضرورة أن يقتصر دور الرئيس والمدير الفني على ترشيح الأفلام، وأن يكون رأيهم استشاريًا فقط، في حين من الضروري أن يُصبح رأي لجنة المشاهدة إلزاميا وليس فقط استشاريًا.