كنت أقف على رأس المدفن ألتصق بأخي الأصغر وألف ذراعي حول كتفيه كأنما أمنعه من انهيار وشيك وفي ذات الوقت أحتمي به. كانت التجربة الأولى مع الموت التي تُزلزل عالمي والأرض الراسخة من تحت قدمي، بفراق مَنْ أدين لها بكل جميل في حياتي. التفت فلمحت وجهه يتطلع إليًّ بين الحاضرين يقف في صمت وخشوع لكن العيون المُدركة لمصابي كانت تواسيني في أمي وتطبطب عليَّ. خطوت غير مصدقة أنه تكبد عناء هذا المشوار الصعب.
كان يقطن في مدينة مايو، وهو مشوار شديد الإرهاق لمن يريد بلوغ وسط المدينة، فما بالك بخمس ساعات إضافية تكبدها كي يصل الى بلدتي على أطراف الدلتا عبر أربع مواصلات. جاء مبكرا ولحق بصلاة الجنازة سائرا معنا طويلاً إلى المقابر قبل أن يقدم واجب العزاء ثم شد رحال العودة من دون أن يتناول شربة ماء فقد كان يريد أن يضمن العودة إلى بيته ليكون بصحبة زوجته المريضة.
عن الأب والصديق والمعلم الإنسان والباحث السينمائي المخلص الأستاذ محمد عبد الفتاح أتحدث، فرع آخر شديد الخصوبة والتأثير -بشكل خاص في حياتي النقدية والإنسانية إلى جانب اسهاماته في المكتبة السينمائية– ترجّل عن عالمنا وإن لم ولن يُغادر بأثره الرحيم المضيء.
كان آخر لقاء به منذ شهور في عزاء زوجي وحبيبي الروائي د. شريف حتاتة، لكن التواصل لم ينقطع أبداً. كان حريصا بين حين وآخر أن يطمئن عليَّ هاتفيا ويحثني على ضرورة عدم الاستسلام للحزن والفقدان، والعودة للكتابة النقدية وبحوثي السينمائية المؤجلة، عرض المساعدة مجددا بأي من المراجع من أرشيفه، كان كريماً سخياً كعادته معي وفي كل مرة يختتم حديثه بدعوته \”ربنا يحفظك\”، آخر رسالة تلقيتها منه كانت في عيد ميلادي الذي لم ينسه يوما منذ التقينا ونصحني فيها بعدم الدخول في معارك جانبية تعطلني عن مشروعي، وألا أستجيب للاستفزاز أو الافتراءات فكتبي وبحوثي أولى بوقتي وجهدي وهى خير رد على الأكاذيب والأحقاد.
كانت شخصيته تغمرها الطيبة ودماثة الخلق والعفو عند المقدرة منذ تعرفت عليه من خلال كتابه عن حسن الإمام الذي كان مبهراً لي في دقته وزخم معلوماته، واتسامه بالموضوعية. هذا الكتاب ذاته كان له الفضل في لقائي بالفنان نور الشريف الذي صار أبي الروحي ومعلمي الأول لأبجدية النقد السينمائي ومدخلا للعمل معه كمساعد وسيناريست لاحقاً، فقد قررت عمل حلقة تليفزيونية عن \”حسن الإمام\” بفضل كتاب الأستاذ محمد عبد الفتاح الزاخر بالفصول بدءا من أيام الصبا وسنوات الشباب لبطل الكتاب مرورا بملامح سينماه من الميلودراما، وتفاصيل عن الحب والصعود الطبقي، والاقتباس، وصورة ووضعية المرأة في تلك الأفلام، متوقفاً عند أفلامه الغنائية والاستعراضية وصولا إلى حسن الإمام مكتشف النجوم وصانعهم، ومأزقه الكبير مع النقاد. كانت حلقة تليفزيونية خاصة رائعة متفردة بنجومها عن حسن الإمام، وبعدها كنت حريصة من خلال عملي أن يحل عبد الفتاح المثقف والناقد الملتزم بدوره البحثي ضيفا بين الحين والآخر في برامجي السينمائية التي كنت أقوم بإعدادها للنايل دراما مثل \”الحكم بعد المشاهدة\”، \”نجوم شكل تاني\”، \”حكاية فيلم\”، وغيرها من البرامج.
ما بين اللقاء الأول والأخير كان هناك مئات اللقاءات والمناقشات بيننا في الأدب والفن والسينما والمسرح أحياناً، رشحني أكثر من مرة للقيام بأعمال نقدية أو المساهمة في ندوات أو نشرات سينمائية، رشحني لإنجاز بعض الكتب السينمائية. كنت أستشيره في أمور كثيرة، فقد كان بعيد النظر، ومخلصاً أميناً في نصيحته، مُشجعاً ومسانداً بوده ودعمه الأبوي ورعايته المهنية. نصحني بالتواصل مع الناقد الكبير سمير فريد وإخباره بموضوع بحثي عن أفلام الإنتاج المشترك لفائدة البحث فمنحني عميد النقاد العرب الكثير من أرشيفه ورشحني لندوة عن الموضوع بمكتبة الإسكندرية.
لم يبخل يوماً الأستاذ محمد عبد الفتاح بجهده ومحبته، فتح لي أرشيفه السينمائي الورقي، بأسلوب لم أعهده من قبل ولا بعد حمل إلىَّ نسخ الفيديو والـ دي في دي التي تخص بعض أفلام الإنتاج المشترك، والتي تساعدني في إنجاز رسالتي للماجستير. منذ عام 1998 نصحني بتكوين أرشيفي السينمائي الخاص، أخذني من يدي واشتري لي الأظرف الورقية التي يمكن من خلالها بناء وتصنيف هذا الأرشيف موضحاً خطورة التدقيق في بيانات الأفلام، أهداني نسخا من الكتب السينمائية المتكررة في مكتبته، نصحني بشراء كتب أخرى ضرورية، اصطحبني الى دار الكتب والوثائق القومية ليعلمني كيف أستخدم الأرشيف هناك وعرفني بالعاملات المسئولات عن استخراج المجلدات من مخازنها فاستوقفني أسلوبه الإنساني الدافئ في التعامل معهن، جلست بجواره أراقب كيف كان يبحث في المجلات القديمة عن الأخبار الصغيرة والمقالات التي تكون مفتاحا أو دليلا في بحوثنا مؤكدا علي ألا أستهين بأي خبر وأتحرى صدقه، في مرات غير قليلة يفاجئني قائلاً: \”يا أمل؛ كتبت لك بعض الأخبار من المجلات التي كنت أبحث فيها، قد تكون مفيدة في بحثك.. يا أمل فيه كتاب جديد في السينما طلع لو مكنتيش اشتريته هأجيب لك نسخة منه،، يا أمل لازم تشوفي كل الأفلام وتكتبي عنها، ده توثيق مهم للسينما، يا أمل عاوزك تقدمي فيلم للأطفال في مركز ثقافة طلعت حرب، طيب ممكن تشاركي في ندوة كذا؟\”
المفارقة في الأمر أن محمد عبد الفتاح ذلك الإنسان النبيل شديد الإخلاص والتأني الدقيق في عمله لم ينجب أطفالاً لكنه أحاط نفسه بعدد كبير من الأبناء والبنات الذين يدينون له بالفضل الكبير لأنه ساندهم وتولاهم برعايته، فمن يعرفه لابد أن يُدرك جيداً أنه كان يفعل ذلك مع الكثيرين بحب وتواضع وابتسامة رضا، وروح لا تخلو من السخرية أحياناً من أشياء غير مستقيمة في الوسط النقدي أو السينمائي، مع ذلك نأى بنفسه مترفعاً عن الدخول في معارك أو تكتلات، وأخلص لمهنته وعشقه الأول البحث السينمائي.
لا يمكن أن أنسى أن أبي محمد عبد الفتاح هو من سحبني الى أرض النقد الواسعة وورطني بحب كبير في مشاهدات أفلام مهرجان القاهرة وأنشطة الجمعيات السينمائية، هو من جعلني أخوض تجربة تأليف الكتب بعد أن كنت أراها أمرا مرعبا بسبب لقطة مشهدية ترسخت في ذاكرتي أثناء حضوري أحد المعارض بفترة الجامعة، إذ دخلت من باب الخيمة لأبحث عن كتاب يُغريني ففوجئت بمئات الكتب ملقاة على الأرض وبعض الأقدام تدوسها من دون أدنى خشية. أفزعني المشهد وقلت لنفسي لو كنت مؤلفة ورأيت كتابي هكذا لأُصبت بأزمة قلبية. وقررت ألا أخوض التجربة. لكن بعد نحو ست سنوات فقط وبعد عدة حلقات سينمائية وحوارات أجريتها معه فوجئت به ذات يوم قبل التصوير يسألني: \”يا أمل ليه ما بتشتغليش على كتاب في السينما؟\”
نظرت إليه بدهشة متسائلة: أنا؟ معقولة؟، فأجابني: \”معقول جدا، أنت بتشغلي في الإعداد بشكل مختلف، بعقل وروح باحثة مدققة، وده واضح في قراءتك الدقيقة لكل التفاصيل عن موضوع حلقتك. أنت باحثة. المهم عندك موضوع للبحث؟\” بفرحة أجبته: \”طبعاً عندي. أفلام الإنتاج المشترك في السينما المصرية، لأني ناقشت الموضوع أكثر من مرة للتليفزيون ولم أجد كتاباً واحداً عنه، لكن لو كتبته مَنْ سينشره لي وأنا غير معروفة؟\” ابتسم ووعد بنشره في سلسلة \”آفاق السينما\” التي كان مديراً لتحريرها وأتاح لي فرصة للقاء الناقد الراحل الأستاذ أحمد الحضري الذي كان يرأس تحرير السلسلة ليناقشني في الفكرة وتصوري عنها، ونفذ وعده وراجع الكتاب بنفسه بدقة وصبر وإخلاص شديد رغم كبر حجم الكتاب، وكان دوما كلما صدر لي كتاباً جديدا حريصا على أن يكون ضمن مكتبته مما كان يُشعرني بالفخر، والإحساس بأنني لم أخذله أبداً، فلترقد روحك في سلام وسكينة يا أبي محمد عبد الفتاح.