تشككتُ في البداية فيما نشرته بعض الصحف المصرية، وتلقته مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من الغضب والإحباط وفقدان الثقة. ولكنني عندما شاهدت الفيديو الذي تحدث فيه وزير العدل في دولة مصر، في القرن الواحد والعشرين، أدركت لأول مرة أن الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي كانت في غاية الرحمة عندما نقلت كلام الوزير بصيغة بسيطة وهادئة، ولم تحاول قراءة ما قاله بعمق. فاختزلته في حيز التمييز والعنصرية.
في الحقيقة، تحدث الوزير بشكل عقلاني جدا ووفقا لطريقة تفكيره ورؤيته للعالم وللمجتمع المصري، وللمصريين، وانطلاقا من موقف اجتماعي – طبقي شديد البؤس والمأساوية في آن واحد. وشدد كثيرا على \”الوسط الذي يجب أن ينشأ فيه القاضي\”، معللا ذلك بضرورة \”الشموخ\”.
هذا الكلام، لا يمكن تصنيفه ضمن العنصرية والتمييز، فهو يمثل أحد أخطر الركائز الأساسية للفساد السياسي في مصر. والفساد السياسي هو رأس الأفعى وأحد المصادر الأساسية، إن لم يكن الأساس، في أشكال الفساد الأخرى. ومن مظاهر هذا النوع الخطير من الفساد، توريث المناصب وقصرها على شرائح اجتماعية (إدارية ووظائفية وأسرية) معينة، وبيع المناصب وتبادلها بين أبناء تلك الشرائح. والفساد السياسي هو أعلى صور فساد السلطة بكل مكوناتها، وأحط مظاهر المجتمع الطبقي.
أعتقد أنه يجب علينا أن نتوخى الدقة، لأن المسألة أخطر بكثير مما نتصور بالفعل. وهي ليست مرتبطة بماضي هذا الوزير، أو بالوضع الاجتماعي لوالديه أو عائلته، أو بأوضاع وعلاقات غيره من أبناء تلك الشرائح (الأوساط) التي تتصور أنها \”تمتلك الأرض ومن عليها من عبيد\”، وماذا كانوا قبل الثورة. فقبل الثورة كانت هناك عائلات إقطاعية، وأسر شبيهة بالأرستقراطية. هذه العائلات والأسر كانت وستظل قادرة دوما على الحياة في ظل أي نظام سياسي، خاصة إذا كان هذا النظام يتضمن بعض جوانب الفساد، أو الضعف، أو السير على بوصلة اجتماعية لا تضمن المساواة في الحقوق والواجبات وبقية الحقوق الدستورية.
وبالتالي، فنفس الأسر والعائلات التي كانت تسيطر على مجالات معينة قبل الثورة، وخاصة في القضاء والطب والقانون والخارجية، هي نفسها التي استمرت. وهناك أسباب ضاعفت من سطوتها وانتشارها وتأثيرها ونفوذها، وعلى رأس هذه الأسباب، الفساد السياسي والاجتماعي، وترهل المنظومة الإدارية وبيروقراطيتها. وأصبح الإنسان يحصل على وظيفته انطلاقا من انتمائه الاجتماعي (في مجتمع طبقي) وليس انطلاقا من قدراته وطاقاته.
إن ألاعيب النظم السياسية الفاسدة وحِيَل الأنظمة المتحالفة مع رووس الأموال وعصابات البيزنس كثيرة ومتنوعة. فهم من أجل ذر الرماد في العيون، ومن أجل تجميل منظومتهم الاجتماعية والإدارية، يسمحون لأفراد معدودين من البسطاء بالدخول إلى هذه المجالات، ولكنهم يكونون متيقظين تماما لمسارهم الوظيفي، أي أنهم لا يسمحون لهم بالارتقاء الوظيفي أو الترقي الوظيفي إلى مستويات معينه. وبالأحرى، يكون لهم سقف في الترقي الوظيفي. وهناك الكثير من الحيل التي تمارسها مثل تلك الأنظمة السياسية والأسر والعائلات التي تنمو وتترعرع في كنفها.
ما قاله وزير العدل المصري، يعاقب عليه القانون بحكم الدستور. ولكننا نعرف أن لا تفعيل لمواد الدستور إلا برغبة كبار هذه الشرائح الاجتماعية والإدارية. وبالتالي، لا يمكن أن ننخدع كثيرا وطويلا عندما يتم قبول عدد محدود للغاية من أبناء البسطاء في وظائف محددة بالدولة. فمصيرهم مرسوم بعناية من قِبَل هذه الطغمة. أما مسألة رؤساء مصر أبناء الطبقة الوسطى، أو الشرائح الدنيا في هذه الطبقة، فهي تدخل ضمن أطر أخرى تتعلق بالتوازنات السياسية والاجتماعية ومراكز القوى في الدولة. ومن مصلحة الشرائح المتنفذة أن تختار دوما أحد أبناء تلك الشرائح الدنيا في الطبقة المتوسطة لتسند إليه المنصب الأكبر مقابل الحفاظ على التوازنات الطبقية والسياسية، والحفاظ على مصالح وتأثير، بل ووجود هذه الأسر والعائلات التي تمثل الشريحة الأكثر خطرا على وجود المجتمع والدولة، وتسمح دائما باستخدام العنف مع معارضي النسق الاجتماعي الخاص بهم. وهذا هو ببساطة أحد مظاهر الاستبداد، والدولة المستبدة، وتشغيل هذه الدولة لحسابهم، وتوظيف أجهزتها لحمايتهم وحماية مصالحهم ونفوذهم.