د. أشرف الصباغ يكتب: تاريخ الفساد في مصر.. "بوبوس" بين الوقاحة الفنية وفضح الواقع

 

جاء فيلم \”بوبوس\” للمخرج وائل إحسان متضمنا عدة خطوط درامية، يصلح كل منها لأن يصبح فيلما مستقلا بذاته. فخط الحبيبين الفقيرين نراه يوميا في أفلام كاملة، وخط سيارات الميكروباص وما يجري فيها نراه في أفلام، ونسمعه في حكايات ونكات، ونقرأه في كتب بأكملها. وخط الأفراح الشعبية \”البلدي\” وما يجري فيها من معارك وتناقضات نراه في كل الأفلام الكوميدية تقريبا. وخط الفساد الاقتصادي والسياسي ملأ السينما المصرية بسذاجته المعهودة. ولأن السينما أصبحت فنا مركبا لا يحتمل الأحادية والآراء الحادة والمطلقة، فالسيناريو الذكي فاعَلَ بين كل هذه الخطوط ليؤصل الرؤى المتناثرة في الواقع الراهن وحدود المستقبل المظلم. كل ذلك في إطار كوميدي عالي الدقة والرقة والوقاحة الفنية. هذا السيناريو لا يتضمن حرفا واحدا ساذجا، أو كلمة زائدة. فمن كان يمكنه أن يحمل هذا الفيلم غير عادل إمام ويسرا؟ والحديث عن هذا الثنائي لا يقلل إطلاقا من أدوار أو جهود بقية المشاركين في الفيلم من يوسف داود إلى أشرف عبد الباقي ورجاء الجداوي وغيرهم من الممثلين الذين أدوا أدوارهم بدقة وفهم وذكاء.

إن خط الحبيبين الدرامي يصل إلى ذروته عندما يتم تبادل الأمكنة بين عادل إمام وأشرف عبد الباقي في مشهد فني نادر يكشف عن المأزق الأخلاقي بين الحاكم والمحكوم، بين رأس المال الطفيلي وبين قيمة العمل المهدرة. أما خط الفرح الشعبي فيصل إلى ذروته عندما ينهار باب الشقة تحت وقع \”ثورة\” حقيقية لشخص، أو أشخاص انهارت آخر معاقلهم – الأولاد ولقمة العيش. أما مشهد سيارة الميكروباص فيصل إلى أعلى ذروته عندما يخرج عادل إمام هويته الشخصية أمام رجل الشرطة – أقراص \”الفياجرا\”. قد يكون هذا المشهد نمطيا وتقليديا ومبتذلا في السينما والمسرح والأدب عموما.. بمعنى أن هذه الفئة العاجزة جنسيا لا يمكنها أن تقدم أي شيء أصلا رغم امتلاكها كل شيء. ولكنه ضمن المعادلة الفنية العامة للفيلم يرمي على أزمة حقيقية يديرها رأس المال الطفيلي وتتجلى في قيام عادل إمام – رجل الأعمال الطفيلي –  بتوزيع أقراص الفياجرا على أسرة بأكملها ليعيش أفرادها، ويسترجعوا، أفضل لحظات حياتهم وما وصل إليه وعيهم من قيم الحب والجمال والجنس.

أما خط الفساد الاقتصادي والسياسي فقد لخصه الكاتب والسينارست يوسف معاطي في مصطلح \”بوبوس\” الذي يجيد المصريون البسطاء استخدامه ككلمة مكونة من خمسة حروف. وتاريخ إجادة مثل هذه الأفعال أو المصطلحات شائع (الرباعية والخماسية الحروف مثل ريختر وبعجر وبنجر وشرشر وكارتر وزنفل وقرقر وكَبَّر وشَلَّح..). فقد أصبح نطق كلمة واحدة من هذا النوع أسلوبا للحوار بين البسطاء في الحواري والأزقة، واصبحت تتضمن كل المعاني والكلمات التي يريد قولها الشخص. أي يمكن تضمينها كل ما يمكن عدم الإفصاح به، والمدهش أن الطرف المتلقي يدرك على الفور مضمون الرسالة بكل أبعاده ودلالاته.

\”بوبوس\” أجمل تاريخ الفساد الاقتصادي والسياسي في مصر في الربع قرن الأخير أو ما يزيد قليلا. فالرأسمالية الطفيلية التي لا تمتلك جذورا أو قيما تعمل سمسارا ووسيطا، ولا يمكنها أن تمارس دورها التاريخي مثل أية رأسمالية لها تقاليدها وجذورها وإسهاماتها الاجتماعية، ناهيك عن دورها الاقتصادي والسياسي الذي هو من صلب تكوينها التاريخي. \”بوبوس\” كشف عن غياب دور الدولة، أو غياب الدولة نفسها كنظام ومنظومة، وبالتالي غياب دور الحكومة، أو غياب الحكومة. وكشف أيضا عن تآمر، وليس تحالف، السلطة مع رأس المال الطفيلي ليصل في النهاية إلى فضح التركيبة التي لا يمكن فيها فصل الرأسمالي الطفيلي عن تجليات السلطة السياسية المتمثلة في أحط صور القمع والعشوائية.

الرأسمالية \”العشوائية\” لا تفرز فقط عشوائيات سكنية، بل كائنات عشوائية، وعشوائية فكرية. ومن ثم نمط حياة عشوائي وإن كان فخما ومرفها. والعشوائية هنا تتجلى في دور الدولة \”السمسارة\” التي تمسك بأدوات السلطة لا للتنظيم، بل للتأديب وتشريع الفساد وتقنينه. فهي – السلطة – تحافظ على التوازنات بين رجال الأعمال، و\”تقرص\” آذان البعض لصالح البعض الآخر. وعندما تستنفذ إحدى الأدوات دورها أو مفعولها، يتم استبدالها بـ \”بوبوس\” آخر. لنكتشف في النهاية أن الدولة عبارة عن \”بوبوس\”، والسلطة \”بوبوس\”، ورجال الأعمال \”بوبوس\”، والناس \”بوبوس\”. أي أننا نعيش في \”بوبوس\” كبير يختصرنا جميعا في علاقات الـ \”بوبوس\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top