د. أشرف الصباغ يكتب: الديني والسياسي من أجل هدم الدولة

قد نتفق أو نختلف مع ما يطرحه المفكر المصري سيد القمني. وعندما نتفق معه، فهذا لا يعفينا من القراءة الواعية لما يطرحه للإلمام بمشروعه والاشتباك معه. وحينما نختلف، لا يمكن أن يكون ذلك دافعا للتحريض عليه أو التعدي على حقه في التفكير والطرح.
هذا الكلام، وإن بدا ساذجا، قد يتعلق أيضا بقتل فرج فودة بدم وقلب باردين دون أن يقرأ القتلة ما كتبه، وبمحاولة ذبح نجيب محفوظ دون أن يقرأ المجرم – الإرهابي ما كتبه، وبنصر حامد أبو زيد عندما اعتدوا على حياته الشخصية بقوانين بائسة، ووضعوا أنفسهم موضع سخرية تاريخية.
لقد أصبح من الواضح تماما أن المؤسسات الدينية ترفض فكرة \”تجديد الخطاب الديني\”، وبالتالي، فالحديث عن \”الإصلاح الديني\” بمعناه الواسع ضمن منظومة إصلاحات اجتماعية وتشريعية واسعة النطاق يبدو وكأنه حديث \”طرشان\”. فالنظام السياسي لا يستطيع الاستغناء عن المؤسسات الدينية – الكهنوتية التي توحشت نتيجة دعم نفس النظام السياسي لها.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يعيش أي نظام سياسي استبدادي بدون مؤسسات دينية – كهنوتية تكرِّس للتخلف والرجعية، وفي أحسن الأحوال تقف عائقا أمام تطوير المجتمع والدولة.
من الصعب أن نتحدث عن أي تجديد للخطاب الديني في ظل تداخل الدين مع الدولة، وفي ظل اختلاط الدين بالسياسة. إن الوضع القانوني للمؤسسات الدينية في مصر غير واضح وملتبس للغاية، فلا هي مستقلة عن الدولة ولها ضوابط اجتماعية وتشريعية، ولا هي مؤسسات ضمن مؤسسات القرار القادرة على فرض إرادتها على التوجهات الاجتماعية – السياسية.

إن هذه المؤسسات التي تُفَرِّخ لنا الآلاف من الخريجين سنويا تلعب دورا آخر تماما في تقسيم المجتمع المصري إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وإلى مسلمين وغير مسلمين. ولا شك أنها تعلن أشياء وتخفي أشياء أخرى.

إن تجديد الخطاب الديني يرتكز في الأساس على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ووضع ضوابط للمؤسسات الدينية أيا كانت عقيدتها، وأيا كان نشاط التابعين لها. بعد ذلك تبدأ عملية التجديد من داخلها وليس من خارجها، مع الالتزام الصارم ببنود الدستور ومواد القانون التي تُجَرِّم التمييز أو الإجبار أو إنزال العقاب على أساس الدين أو العرق أو الثقافة أو النوع.

وإذا شئنا الدقة والمنهجية، فعملية تجديد الخطاب الديني هي عملية جدلية لا يمكن أن تقوم بها مؤسسة واحدة، أو تتم في ظل استقطاب سياسي يعتمد على التمييز الديني.

وبالتالي، ففي ظل تواطؤ المؤسسات الدينية وانحيازها للنظام السياسي وتكريس الهرطقة والشعوذة، من الضروري أن تتضافر مؤسسات الدولة، وعلى رأسها وزارة الثقافة في إنتاج خطاب مغاير، ودعم وتعزيز قوة الأفكار الطليعية التي تحملها عناصر وشخصيات من داخل تلك المؤسسات الدينية.
هناك عملية خلط أوراق تجري من جانب المؤسسات الدينية والسلطة السياسية على حد سواء. إذ أنه من الواضح أنهما بحاجة إلى بعضهما البعض من جهة، وعملية خلط الأوراق تروق لكليهما من جهة أخرى.

وبالتالي، عندما يصل الحديث إلى تجديد الخطاب الديني في دولة مواطنة ومجتمع مدني وقوانين إنسانية عامة، يبدأ الحديث عن الإرادة المجتمعية التي تم تدمير جزء منها لصالح الغيبيات والشعوذة والهرطقة، وتوجيه جزء آخر لحساب المصالح المتبادلة. وفي هذه الحالة، فإن تحالف المؤسسات الدينية مع السلطة السياسية لا يقل خطورة عن تحالف رأس المال مع السلطة السياسية.

في هاتين المعادلتين، نجد أن السلطة السياسية عامل مشترك يسعى إلى تدجين الغالبية العظمى من المواطنين إما بالدين أو بالإفقار للحفاظ على هذه السلطة واستمرارها كيفما اتفق وفي أي صورة، مع الاحتفاظ بهيبتها عن طريق الأجهزة الأمنية التي تقوم بعدة أدوار، من بينها المرشد الديني وصاحب اليد القوية في التقويم والتهذيب إلى جانب الممارسات الانتقائية للعنف باسم القانون.

ولكن كل ذلك يصب في مصلحة تلك السلطة المتحالفة مع المؤسسات الدينية أو مع رأس المال، أو مع كليهما.
على الدولة أن تسن قوانينها وترسي قواعدها أولا، ووفقا لأولويات الاستقرار الاجتماعي والعقائدي والعرقي.. أي ببساطة تحترم تاريخها وكرامة مواطنيها وحريتهم في اختيار أو تبديل قناعاتهم وعقائدهم وإيماناتهم، ولا تخلط بين المؤسسات الدينية والمؤسسات الثقافية.

وبالتالي، فالأزهر وبقية المؤسسات، هي مؤسسات روحية بالدرجة الأولى وليس لها علاقة بالسياسة ولا بمؤسسات الدولة الأخرى التي تتعامل مع الحياة اليومية للمواطنين. وكل مواطن حر في ممارسة شعائره في الأماكن المخصصة لها أو في بيته مع الالتزام بتجريم عملية الإجبار العقائدي والتعدي على الآخرين باسم العقائد، أو التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة، وإطلاق حرية الاعتقاد أيضا.

هنا يأتي دور وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية التي يجب أن تمارس دورها في دولة المواطنة وحرية الاعتقاد.. هذه المؤسسات الثقافية يجب أن تخلع رداء الإرشاد والتوجيه وتوظيف نفسها كأداة لخدمة النظام السياسي، وتقوم بدور ثقافي تنويري، أو على الأقل تقوم بدور مهني في تنظيم وإدارة العمليات الثقافية والمعرفية المعقدة كإحدى أهم القوى الناعمة. فوزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية ليست دورا للوعظ أو التفسير أو الفصل بين هذا التوجه الديني أو ذاك، أو تمرير هذه الفتوى أو تلك، وإنما تمثل قوة ناعمة تعمل لصالح المجتمع والدولة بشكلهما العلماني الحديث وليس لحساب النظام السياسي المحافظ أو المؤسسات الدينية اليمينية التي تتسم بالتطرف والمغالاة والتواطؤ، حتى وإن كانت وزارة الثقافة تطلق انتقادات \”ملونة\” ضد هذه المؤسسات في العلن.
هنا تمتلك مشروعات نصر حامد أبو زيد أو فرج فودة، أو كلاهما، الحق في التواجد والحضور. أي أن أخطر ما تواجهه المؤسسات الدينية هو أن يخرج التجديد من داخلها هي. ولذلك كانت الحرب قاسية من جانب تلك المؤسسات ضد نصر أبو زيد. وكان عقاب فرج فودة هو القتل وكأننا في العصور الوسطى. إن مشروعات هذين المفكرين كانت إرهاصات في غاية الأهمية والخطورة والجدية، ولكن لأن النظام السياسي بشكله الحالي يمثل حليفا للمؤسسات الدينية وتيارات الهرطقة، فهو لا يستطيع حماية تلك المشروعات وتنميتها وتطويرها ودعمها وبلورتها في شكل تيار عام قادر على خلق بدائل، وقادر على تجديد الخطاب الديني بما يخدم دولة المواطنة والمجتمع المدني ومنظومة العلاقات الاجتماعية الصحية البعيدة عن الإجبار والإخضاع والتدجين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top