جوهر أزمة السياسة في مصر حاليا هو أن نظام السيسي قائم على تصور مقدس وثابت ومتوارث عبر تاريخ الدولة المصرية الحديثة وهو أن السيادة للدولة وليست للشعب، وأن الدولة في مصر (وهي مجموعة من المؤسسات العسكرية والأمنية والبيروقراطية والاقتصادية والخدمية والعدلية والثقافية وفي القلب منها المؤسسة العسكرية) هي صاحبة البلد والوصية على الشعب، وهذه الدولة هي مصدر السلطة والشرعية ومستودع القيم الوطنية حصريا، ومرجعية الحقيقة السياسية والأخلاقية المطلقة وبانية العصر الحديث وصاحبة الحق الحصري في وضع قواعد اللعبة وشروط العلاقة بينها وبين المجتمع والشعب بتكويناته المختلفة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ووضع قواعد اللعبة وفرض آليات الضبط والتحكم والسيطرة المادية والمعنوية، وعلاقة هذه الدولة بالشعب كما تراها مؤسسات الدولة تلخصها صورة الجندي والطفل الشهيرة الموجودة على الأتوبيسات وفي الشوارع في المدن المصرية، فالشعب هو الطفل الرضيع دائما، والذي يجب أن يبقى أبدا رهن الوصاية الصارمة والحانية للدولة (الجندي) قائدة الإجماع والاصطفاف الوطني عبر حراس معبدها وكهنته، وتصر هذه الدولة على طمس التعددية ومصادرة حقوق التنظيم والتعبير والتمثيل للأفراد والجماعات المختلفة داخل المجتمع.
وكل من هو خارج دائرة مؤسسات هذه الدولة ووصايتها وزبونيتها هو دخيل وغير وطني وغير مهتم بالمصلحة الوطنية (تحديدها هو حق حصري مقدس لمؤسسات الدولة فقط وغير خاضع لأي تفاوض أو جدل أو تمثيل للقوى الاجتماعية المختلفة في عملية تحديدها) وغير شريف وتابع لأطراف خارجية أو داخلية معادية للبلد ولـ \”هويته \” و\”مصلحته\” و\”ثوابته الوطنية\”، وغيرها من المفاهيم المجردة الهلامية الخاضعة في تحديدها حصرا لمؤسسات هذه الدولة.. وهذا التصور تشّكل عبر سياسات التنشئة الذاتية داخل هده المؤسسات عبر مراحلها الثلاثة: المرحلة السلطانية (حكم دولة محمد علي حتى مجيء الاستعمار البريطاني) والمرحلة الكولونيالية حتى منتصف القرن العشرين، ثم مرحلة دولة التحرر الوطني الأمنية العسكرية المبقرطة، والتي مازلنا نحيا في ظلها حتى اليوم، وتشكل هذا التصور أيضا عبر عمليات مكثفة من التلقين والتربية والتدجين والسرد والتشكيل والاستحواذ الأيديولوجي على خطابات الوطنية المصرية عبر مؤسسات التربية الثقافية والإعلامية والتعليمية لدولة التحديث الفوقي المصرية عبر مراحلها الثلاثة لتصبح أيديولوجية الوطنية المصرية الدولتية المتعسكرة والمبقرطة والمؤمننة هي أهم وأقوى الأيديولوجيات الفاعلة في مصر على الإطلاق.
ولن يتسنى لنا فهم فاعلية وقوة الوطنية المصرية الدولتية إذا ما اكتفينا بجانبها الأيديولوجي فقط وتجاهلنا كيف صارت establishment كبيرة لها شبكات مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والمالية المتشعبة والمتراكمة وامتيازاتها ومكاسبها ومغانمها، فمؤسسة \”المجد لدولة الأمن والعسكر والبيروقراطية في مصر\”، هي قصة مركبة من الأيدولوجيا والتصورات حول الذات والعالم والمصالح الموضوعية المتشابكة والناتجة عن تفاعل تاريخي معقد بين موروثات مختلفة تشمل الموروث السلطاني من العصر المملوكي والعثماني وتجربة دولة محمد علي وتجربة دولة اللورد كرومر الكولونيالية ودولة يوليو العسكرية-البيروقراطية ونتائج عمليات التحديث الناقصة التي قامت بها هذه المؤسسات الدولتية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين واختيارات النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ضوء مصالحها المتراكمة وفي ظل شروط إدماج مصر داخل النظام الرأسمالي الدولي المهيمن عالميا خلال هذا العصر وما أسفر عنه كل هذا من اختلال موازين القوى بين الدولة والمجتمع لصالح الأولى، بالإضافة إلى تحكم الدولة في فوائض النشاط الاقتصادي وعمليات انتاج القيم العامة والتصورات عن \”النظام العام\”.
وهذه الوطنية المصرية الدولتية السلطوية ليست فقط معادية للديمقراطية من أي نوع (سواء أكانت ليبرالية تمثيلية أو جمهورية مباشرة أو تشاركية لا سلطوية) لكنها معادية للسياسة بألف ولام التعريف: السياسة كمجال لإدارة علاقات السلطة والتفاوض حول مدخلات ومنتجات السياسات العامة بمشاركة قوى المجتمع المختلفة، انطلاقا من التعددية الاجتماعية وتباين المصالح كواقع حي وحقيقة سياسية وبشكل يحقق توظيف جيد لموارد المجتمع لتحسين شروط الحياة فيه وربطها بمتغيرات واحتياجات العصر باستمرار.. في ظل هذا التصور تموت السياسة لصالح هيمنة مؤسسات متكلسة ومتحجرة وعقيمة تكونت في سياق ظروف تاريخية متقادمة وتحكمها علاقات فاسدة وعصبوية ومافياوية وإجرامية ومملوكية الطابع مهتمة بالأساس بالنهب والسلب وتوزيع حصص المكاسب وتقسيم مناطق النفوذ ومخصصات الموارد العامة، ومن ثم فهي صارت أشبه بعلاقات عزب وإقطاعيات المماليك في مصر القرن الثامن عشر، حيث تصبح السياسة العامة للدولة هي محصلة موازين القوى بين المصالح الضيقة المختلفة لأجهزة مفككة وغير مترابطة وغير واعية بنفسها كمؤسسات عامة تمثل معا كل سياسي اسمه \”دولة الجماعة الوطنية الحديثة\”.
ومن النافل القول إن هذه الأجهزة تدهورت نحو المزيد من ضيق الأفق والانعزال عن مستجدات العصر، ومخرجاتها هي دائما لصالح تأبيد الوضع القائم وإجهاض أي فرص لتغيير تنموي أو ديمقراطي أو تحديثي من أي نوع أو أي حراك سياسي أو اجتماعي أو ثقافي يمكن له أن يحلحل المصالح الهائلة المتراكمة حول هذه الدولة وشبكاتها المعقدة من الزبائن والاتباع والمستهلكين، بالإضافة إلى لعبة من التوازنات والحسابات لإدارة التناقضات الداخلية بين شركاء النظام من مماليك السلاح ومماليك البيروقراطية ومماليك المال.
هذا هو الجذر للأزمة السياسية المصرية، ويتفرع منه كل القضايا الأخري مثل الفساد والنهب والسلب وفشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإهدار الموارد، وغياب حكم القانون، السلطوية والقمع والدموية وإغلاق المجال السياسي وضيق التحالف الاجتماعي الحاكم (أو غيابه) وغياب المحاسبية والشفافية في صناعة القرار، وعدم الكفاءة، والتخلف الإداري وهيمنة المصالح الخاصة والضيقة والزبونية والعقلية البيروقراطية الديناصورية العقيمة، وتكلس النخب، والضعف المؤسسي وتدهور التنمية البشرية من صحة وتعليم وغيره، وانهيار الخدمات الأساسية، وفشل التحديث الثقافي والاجتماعي وانعدام الإصلاح الديني.. إلى آخره….
هذا هو جذر الأزمة في مصر وتجاهله وطمسه لصالح جدل الهوية مثلا كإشكالية سياسية مركزية مصطنعة هيمنت على الساحة المصرية من أربعينيات القرن العشرين على الأقل، أو التواطؤ على تغييبه من ساحة الجدل السياسي -بحجة المواءمة أو أنه \”مش وقته \” أو أنه \”فيه أولويات أخرى \”أو أنه من الممكن المراوغة لتحييد هذه الأزمة الرئيسية- يقود البعض إلى أوهام \”الإصلاح من الداخل\” والحلم بـ \”بونابرتية\” إصلاحية تقودها مؤسسة \”تحديثية\” ما أو\”قائد تحديثي\” ما من داخل الدولة أو \”العسكرية الإصلاحية الفوقية المستنيرة\” إلى آخر هذه الترهات والخزعبلات السياسية التي لا تقوم على أي أساس ولا تستند إلى أي حقائق غير تمنيات أصحابها لأنه ببساطة من يمتلك القدرة على الإصلاح في مصر لن يستفيد منه، بل ستتضرر مصالحه وامتيازاته ونفوده منه، ومن ثم فلن يقدم عليه برغم أي ادعاءات كاذبة بالعكس ومن يرغب بشدة في الإصلاح لا يمتلك القدرة، ليس فقط على تحقيقه، بل على الاشتباك مع قواعد اللعبة من موقع قوي ومستقل.. والقدرة الغائبة هنا هي القدرة المادية.. قدرة حشد الموارد والكوادر والأنصار والأتباع والقدرة التقنية والعملية واللوجستية على التعامل مع ديناصور البيروقراطية المصرية وملفات الحكم والاقتصاد والإدارة المعقدة والملغزة، والقدرة السياسية على التعبير عن مصالح منظمة لقطاعات معتبرة من القوى الاجتماعية الطامحة في بدائل برامجية مسئولة وواقعية لتحسين شروط حياتها في سياق واقعها المعاش في عصرنا اليوم، بعيدا عن سجال الأيدولوجيا واحتراب الهويات.
المشكلة أن الاضمحلال الشامل الحادث في مصر نتيجة لتراكم عقود طويلة من أزمات هذه الدولة الفاشلة والعاجزة والمهيمنة في آن واحد، هو بالفعل وضع شديد الخطورة، خصوصا مع انفجار زلزال ثورة يناير 2011، وبالرغم من هزيمة هذه الثورة لأسباب متعددة، ونجاح الدولة القديمة في امتصاصها واحتوائها، إلا أن الأزمات الهيكلية التي أدت إلى اندلاع ثورة يناير في المقام الأول (أزمة الشرعية وأزمة غياب الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي في ظل اقتصاد سياسي متأزم وعلاقات دولة – مجتمع سلطوية متعفنة وتجاوزها العصر) ماتزال قائمة، بل وتزداد حدة مع مرور الزمن، وقناعة الجنرال عبد الفتاح السيسي حاكم مصر ورفاقه من الجنرالات ورجال الأمن والقضاة والبيروقراطيين وسائر كهنة معبد الدولة القديمة في مصر أن ثورة يناير كانت نتيجة مؤامرة خارجية من قوى دولية تريد تمزيق مصر وتدمير الدولة المصرية في إطار حروب الجيل الرابع والخامس والعاشر والسابع عشر، لن تنجح في طمس حقائق الواقع، فكما أن السيف أصدق أنباء من الكتب كما قال الشاعر أبو تمام، فمهما طال الوقت أو قصر، سيبقى الواقع ووطأة الأزمات أصدق أنباء من البروباجندا والهلاوس والضلالات وسياسة ترحيل الأزمات والجري في المكان وكسب الوقت عبر تصدير الأوهام والفناكيش.
وبالتالي فالأزمة التاريخية الشاملة في مصر لا تحتاج لمزيد من الخزعبلات، وإعادة إنتاج هذه الأوهام هو قبول ضمني بحالة الفراغ القاتل الموجودة حاليا والتصحر السياسي، حيث تخلوالساحة من أي بدائل ديمقراطية حقيقية تقدر على تجاوز أزمات المشروع والتنظيم والقاعدة الشعبية والخطاب والقيادة والتمويل، فبالتالي هذا لن يؤدي إلا إلى إعادة تدوير نسخ متجددة من التيار الإسلامي (بكل مفاهيمه السلطوية المعادية للديمقراطية وأفكاره الرجعية الكارهة للحريات والحقوق العامة والخاصة ومنتجات الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية) على أنه قوة المعارضة الرئيسية والوحيدة التي تمتلك أيديولوجية متماسكة وحاضنة شعبية وكيانا تنظيميا وثقلا سياسيا ورؤية للعالم تستطيع مقارعة جذور مصفوفة الدولة بأجهزتها وجمهورها وزبائنها وكسب قلوب الساخطين والمتضررين منها، ومن ثم يستمر صراع هذين الديناصورين في دائرة مغلقة لا أمل في التحرر منها وفتح ثغرة في جدارها، إلا عبر استيعاب القواعد الكلية للأزمة وتحدي هذه القواعد بغية تغييرها كهدف واضح على مدى طويل.