عزيزي القارئ, لحظة من فضلك, قبل أن تتعاطف مع الحملات الدعائية المكثفة التي تنتابك في فواصل المسلسلات, والتي زادت بشكل مطرد هذا العام, فتبدأ في تحويل أموالك لتذهب للفقراء الذين لا يملكون حق العلاج بدلا من أن تذهب لبالم هيلز, ثواني من فضلك, بارك الله في نواياك الطيبة, واحتفظ بنقودك الغالية, وأعدك أنك ستصرفها على علاج الفقراء، لكن دعني – وأنا ابن المهنة – أن اساعدك في تحويلها لتذهب لمستحقيها، وليس لسبوبة التبرعات التي اصبحت تشبه الحنفية التي تحتاج لسباك يعيد توريعها من الماسورة الأم.
أتذكر في مطلع الألفية الحالية، حينما بدأت الحملة القومية للتبرع لإنشاء مستشفى لسرطان الأطفال بجهود الشعب المصري تحت رعاية السيدة الأولى آنذاك, كمية الدفاتر التي تحتوي على مائة سند, قيمة السند جنيه واحد, كنا نوزعها ونحن أعضاء في اتحاد طلاب كلية الطب, لقد شاركنا كلنا في صياغة هذا الحلم وخروجه للنور, حتى ولو بمصروفاتنا القليلة, إذن فلا داعي للمزايدة علينا، لأننا نحن المساهمون في إنشاء هذا الصرح, وغيرنا من يتقاضي الألوف المؤلفة من الجنيهات مقابل العمل في ذلك الصرح.
في سبتمبر 2011 التقيت بزميل فاضل يعمل مدرسا مساعدا لعلاج الأورام بمعهد جنوب مصر للأورام – التابع لمستشفيات جامعة أسيوط- وكان الزميل الفاضل قد التحق بالعمل لفترة لا تقل عن أشهر ستة بمستشفى سرطان الأطفال الشهيرة, فسألته عن ذلك الصرح العملاق الذي أنشأه المصريون بجنيهاتهم القليلة, فصدمني بالتالي:
1- لا يتم قبول الحالات الميئوس من شفائها, أو التي تقل نسب شفائها عن الـ70%, بل والأنكى أن أي حالة متدهورة يتم تحويلها فورا لمستشفيات الحكومة، وعلى رأسها المعهد القومي للأورام، حتى لا يزيد معدل الوفيات MORTALITY RATE بها، وبالتالي يقل تنصيفها طبقا لمعايير جودة الأداء الصحي.
2- لاتزال الواسطة تلعب دورها في العلاج المجاني للفقراء, أما للأغنياء أصحاب التبرعات الضخمة أو أصحاب الياقات البيضاء من الإعلاميين والمشاهير, الذين سيقدمون بالتالي خدمات إعلامية تزيد من التبرعات للمكان.
3- يصل مرتب رئيسة التمريض – على حد قول إحدى الممرضات التي تعاقدت معهم للعمل لمدة عام واحد – لـ 39 ألف جنيه مصري، نظير العمل من التاسعة صباحا حتى الرابعة عصرا.
تمام!
4- اعلن المستشفى المذكور عن زمالة في تخصص أورام الأطفال تتجاوز تكلفتها للطبيب 500 ألف جنيه! نعم (نصف مليون جنيه أو 70 ألف دولار).
ليس ما ذكرته من حقائق – على حد قول من عملوا بالمكان- من أجل هدم صرح طبي عظيم, بل بالعكس نؤمن بدور المجتمع المدني في النهضة, لكن النهضة الحقيقة التي ترفع العبء عن كاهل الدولة, وليست نهضة الشو الاعلامي ومافيا التبرعات, ثانيا إن التاريخ يقول بإن المستشفيات الخيرية العريقة كالمبرة والأورمان وغيرهما لن تستطيع بمفردها القيام بدورها دون أن تقف المستشفيات الحكومية وعلى رأسها الجامعية على قدميها, حيث إنها وحدها- على ضعف إمكانياتها وطرقاتها المزدحمة ومرتبات فريقها الطبي الهزيلة – تقدم أضعاف الخدمات العلاجية للمرضى.
ماذا أيضا؟
طبقا لتقرير النيابة الإدارية المنشور بموقع \”المصري اليوم\”، فإن التحقيق في القضية رقم \”47 لسنة 2011رئاسة الهيئة\”، والتي يخلص موضوعها إلى أن الشكاوى المقدمة من \”أطباء المستشفى\” بشأن ارتكاب مخالفات جسيمة بالمستشفى, ومنها عدم خضوع التبرعات للرقابة, ومما ترتب عليه إساءة استخدامها برغم ضخامة التبرعات, كذلك صرف رواتب وعلاوات ضخمة لأطباء وأفراد بعينهم تتراوح ما بين 30 إلى 50 ألف جنيه شهريا, كذلك إنشاء صالة كبيرة للألعاب الرياضية مما يعد إهدار للمال العام, ناهيك عما سبق وذكرناه عن عدم قبول حالات محولة من مراكز أخرى, كذلك تتقاضى العيادات الخارجية أموالا نظير ذلك.
وقد أحالت النيابة الإدارية الشكوى محل التحقيق للنيابة العامة, بحجة عدم الاختصاص, حيث إن اللائحة الداخلية لمؤسسة 57357 والتي أقرها مجلس أمنائها ومهمورة بتوقيع أ.د. أحمد فتحي سرور \”رئيس البرلمان الأسبق\” نائب رئيس مجلس الامناء, وطبقا لقانون العمل رقم 12لسنة 2003 هو الذي تسري أحكامه على العاملين بالمستشفى، لا يخضع للنيابة الإدارية, ومن ثم تمت الإحالة للنيابة العامة.
كذلك تم نشر الخبر الآتي على موقع أخبار مصر الذي يؤكد أن هناك رفضا من إدارة المستشفى لعلاج طفل اسمه (مهند) بها، وبالخبر رقم هاتف والدته واستغاثتها بالسيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس الوزارء:
كذلك – وتحديدا في مركز طنطا الجديد لعلاج سرطان الأطفال- تعيين أفراد أمن وتمريض وأطباء من نفس العائلة بالوساطة دون إعلان.
في نفس الوقت الذي يشترط فيه التعاقد مع أطباء الاستقالة النهائية من الجهات الحكومية, مما يبدو وكأن في ظاهره الرحمة، لكنه يحرم المستشفى من الاستفادة بكفاءات وخبرات عالية.
ناهيك عن أنه لغياب الإشراف وبالتالي غياب الرقابة – حتى الزيارة في المراحل الاولى ممنوعة مهما كان الزائر ولو حتى طبيب أورام – فهناك العديد من التساؤلات المطروحة بسبب غياب الشفافية، والبعض يئولها كما يتراءى له, فالبعض يدفع بأن هناك العديد من الأدوية المنتهية الصلاحية, نتيجة لغياب التفتيش الصيدلي على المستشفى, والبعض الآخر يئول المسأله بأن هناك بعض الحالات المتأخرة فعلا، لكن يتم استقبالها لأغراض البحث العلمي، وهو ما يسمى علميا بالـ CASE STUDY .
أزعم أنني لست اول من تكلم في هذا الموضوع غير قاصد – والله يشهد- هدم مؤسسات ناجحة، وإنما اتحدث لمزيد من الرقابة والشفافية, فقد تحدث الفنان الراحل وحيد سيف عن ذلك بمقال شهير بالمصري اليوم, وتحدث أيضا جمال الشاعر في كتابه (اعمل عبيط)، وآخرهم الدكتور خالد عمارة في مقال له عن الطب في مصر, عن أن حجم التبرعات المهولة الذي يتم ضخه في تلك المؤسسات لا يتناسب مع \”الدور\” المنوط بها, ولا \”الإدارة الرأسمالية\” التي تدار بها تلك المؤسسات.
بينما في الخلف مؤسسات الدولة الحقيقية من مستشفيات ومراكز بحثية جامعية أو تتبع وزارة الصحة، تعاني بشكل مضطرد من عجز في الإمكانيات سببه بوضوح ضعف مخصصات الصحة في الموازنة العامة للدولة، والتي لا تتجاوز 3% من الموازنة, وهنا يأتي الحديث عن \”عدالة توزيع التبرعات\” ودور المجتمع المدني في النهوض بالمؤسسات الحقيقة لتعمل جنبا إلى جنب مع غيرها من المؤسسات المفترض أنها \”خيرية\”.
للتواصل مع الكاتب:
Ahmed_aboelkasem2000@yahoo.com