الثانوية العامة تمثل للمصريين عموما وللأطباء خصوصا, حالة غريبة، مزيد من الحنين المختلط بالقلق, والشجن المكسو بالانكسار.
الثانوية العامة هي الحلم المرعب الذي يزرعه الجميع -المدرس قبل ولي الأمر- في عقل ووجدان الطالب, حتى يستعبده فيصير لا يأكل ولا يفكر إلا في الوصول للكلية المتربعة على عرش القمة, وأن عندها سدرة المنتهى!
يصاب طالب الطب في بداياته الجامعية بمتلازمة نفسية غريبة, حيث يشعر بعد أن كان الملك المتوج الذي يرقّصه الجميع على نغمة (الناجح يرفع أيده) -مع العلم أن عبد الحليم في الأغنية كان يقصد النجاح في انتخابات اتحاد الطلاب- وتتوالى عليه تهاني الأهل والأقارب بطنطا وطنط عزة وخالو ميشيل بوسط البلد, إلا أنه يدخل المشرحة في أول أيام الجامعة، فيفاجأ بأنه لم يتم إعداده علميا ليتلقى علوم الطب باللغة الإنجليزية, ناهيك عن أن الميزة الوحيدة التي يتعالى بها على مجتمعه، وهي تفوقه، قد زالت بإلقائه وسط حفنة -أصبحت تقدر بالآلاف سنويا في الكلية الواحدة- من الفائقين, كذلك تصبح الفروقات الطبقية أكثر وضوحا أمامه, فتحتل طبقة أبناء الأساتذة الكبار بالكلية أعلى طبقة, خصوصا مع اقتراب الامتحانات الشفهية والعملية ذات الدرجات الضخمة التي تذهب -إلا من رحم ربي- معظمها لهؤلاء, فلا يجد طالب الطب -وقد تغيرت المعادلة للأصعب- إلا الانسحاب للداخل ونزوله بلدته الريفية للقاء داعميه من الأهل والأقارب والرفاق والمدرسين، في محاولة أخيرة للبحث عن الذات, وكأنه يقول لهم بالفم المليان: (لم نتفق على ذلك, ماذا فعلتم بي؟)
ناهيك عن إن هناك اعترافا ضمنيا بين الجميع -باستثناء وزير التعليم العالي الذي يصر وهو غير طبيب بالمناسبة أن لدينا مستشفيات جامعية أفضل من مثيلاتها في لندن- بأن منظومة التعليم الطبي في انهيار, وأن مستوى خريج كليات الطب أصبح أقل من أن تعترف به مستشفيات الخليج!
عزيزي الأول على الجمهورية، قرأت لك تصريحا صحفيا بأنك (تريد أن تصبح مجدي يعقوب آخر لتعالج الفقراء).. كم هي جميلة تلك الحالة الرومانسية يا عزيزي الحالم, لكن اسمح لي أن أحدثك بشكل أكثر صراحة, أولا: في زمن مجدي يعقوب كان عدد الأطباء لا يتجاوز العشر آلاف – حاليا أكثر من ربع مليون- ناهيك عن أن الوضع المادي للطبيب وقتها لا يجرؤ أحد على مقارنته بالوضع المزري الحالي!
ولو استمر مجدي يعقوب في مصر، وتم تعيينه بالجامعة – ولم تمنعه العنصرية من ذلك- لكان أصبح أستاذا جليلا من أساتذة جراحة القلب والصدر، الذين لم ولن تسمع عنهم، إلا لأنهم فضلوا البقاء في مصر ليعالجوا الفقراء, في الوقت الذي اختار فيه مثلك الأعلى النزوح للخارج -وهو معذور- ولم يعد إلا بعد أن منع نتيجة قانون ممارسة الطب في انجلترا من إجراء العلمليات لتجاوزه الخامسة والستين!
اعلم يا عزيزي -والقرار لك وحدك- قبل أن تسمع للمطبلين والمهللين من البسطاء أقرانك, أنك قد تصاب بجلطة دماغية أو ذبحة صدرية قبل أن تصبح مجدي يعقوب آخر, بمجرد أن تعرف أن الفاشل -بمفهوم مدرسينك- الذي لم يتجاوز مموعه الخمسين بالمائة قد يصبح رئيسا للدولة, في الوقت الذي تكون أنت مازلت تمتحن الدكتوراة!
وأنه، وأنت مازلت تستعد لدخول لجنة الجراحة العامة, سيكون من اتهمه مدرسينك بالفشل يتقاضى آلاف الجنيهات لمجرد أنه يعمل بالبترول أو الكهرباء!
أجمل ما قرأته على صفحة أحد الزملاء جراحي القلب: (لو نفسك تدخل طب علشان تبقى زي مجدي يعقوب.. فاعلم أن مجدي يعقوب نفسه كان عاوز يدخل هندسة, بس مجموعه جاب له طب).