\”احكيلي حدوتة\”.. هكذا طلبت بنت أختي الصغيرة. فكرتُ في شيء أرتجله عن البنت الشاطرة التي تسمع كلام بابا وماما كعادة حواديت هذه الأيام، لكنني قررت وعلى سبيل تنشيط الذاكرة أن أحكي لها حدوتة كانت جدتي تحكيها لي يوميا. \”يوسف المسحور والسبع بحور\”.. حدوتة عن أميرة تبحث عن أميرها المسحور.
كل صباح كنا نحتسي أنا وجدتي أكواب الحليب الدافيء، وأجلس أمامها، أتمعن في ردائها الأسود، وكردانها الذهبي، ووشم ذقنها البدوي.. نينة -كما كنت أناديها- لم تكن جدتي لأبي أو لأمي، لكنها كانت جارتنا التي تولت تربيتي في سنوات الطفولة.
كان ياما كان يا سادة يا كرام..
كان هناك ملك, له ثلاث بنات.. الصغيرة تدعى ست الحسن والجمال، وفي يوم تخبره العرافة أن ابنته الصغرى لا يمكنها الزواج سوى من أمير يدعى يوسف.. محبوس بين سبعة بحور، ولا مفر من أن تذهب للبحث عنه حتى تنعم بفارس الأحلام.
يترك الملك ابنته لمصيرها ورحلتها، وتسافر الفتاة على حصانها تبحث عن السبعة بحور.. لا تملك سوى بعض من حبات البندق واللوز.
ست الحسن والجمال كانت شجاعة، واجهت الأهوال.. سارت في الصحاري ليال طويلة… قابلت ماردا مخيفا وأمنا الغولة.
\”لولا سلامك سبق كلامك لكلت لحمك قبل عضامك\”
تتردد الجملة في عقلي بصوت جدتي الواهن، وهي تحاول تقليد صوت أمنا الغولة وهي ترد السلام على ست الحسن والجمال.
لا أعلم لماذا أتذكر تلك الجملة مع كل اختبار شفهي أو مقابلة عمل مررت بها في حياتي. فأنا لم أرحل وحيدة للصحراء من قبل، لكن الغيلان موجودون في كل مكان وزمان.
تصل ست الحسن للسبعة بحور.. بحور بألوان قوس قزح، ويجب عليها أن تبكي حتى ينحسر الماء ويظهر يوسف المسحور.
\”يا يوسف.. عيطت عليك سبع سنين وسبع شهور وسبع أسابيع وسبع أيام وسبع ساعات وسبع دقايق وسبع ثواني\”
مع كل ضائقة أمر بها كنت اتذكر بكاء ست الحسن وأقول لنفسي: \”كله بيعدي\”.. \”ما ضاقت إلا ما فرجت\”.. قضيت سنوات أبكي كل ما لم أحصل عليه.. كنت أقدم قربان الدموع لإله الحزن ليرحل عني.. ممنية نفسي بنهاية قصة ست الحسن، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك أشياء لا تمر, وتجارب لا نتخطاها, لذلك هناك دائما من يمت من الحزن والأسى.
يخرج يوسف من وسط الصخور، فلا يجد ست الحسن، فالحدوتة تقول إنها تعبت من البكاء وذهبت للنوم تحت شجرة قريبة، لكن يوسف يجد فتاة أخرى تقف عند بركة الدموع، فيظن أنها ست الحسن ويأخذها للقصر ويرحل.
عند تلك النقطة كنت أصرخ: \”لأ يا يوسف.. مش دي ست الحسن, ست الحسن هناك عند الشجرة\”، وهكذا كبرت وأنا أصرخ في السينما: \”لأ مش ده القاتل\”، وأصرخ في الحياة العادية: \”لأ مش ده العدل\”.
حين تستيقظ ست الحسن يخبرها حصانها أن يوسف رحل مع أخرى، فتسأل عن قصره، وتذهب في زي خادمة حتى تحين لها فرصة لقائه وتخبره الحقيقة.
وأنا طفلة كنت أتحمس وأترقب رحلة ست الحسن الجديدة للحصول على الأمير. أما أنا اليوم إذا كنت بموقفها، سأرحل لبيتي متعبة، أنام على الكنبة لأسابيع، أتناول الكثير من الطعام أمام التلفاز حتى أُشفى وأنسى يوسف واللي جابوه.
ثم في النهاية، تخبر ست الحسن والجمال يوسف بكل شيء، وتقص عليه رحلتها الطويلة…. و
\”يتجوزوا ويعيشوا في تبات ونبات, ويخلفوا صبيان وبنات\”
كانت جدتي تناديني بست الحسن والجمال، وكنت أصدق أنني يوما ما سأصير بطلة تسافر لآخر العالم، لكنني أدركت أنني لست بطلة قصة ولست ست الحسن والجمال.. جدتي العزيزة، أنا فتاة بين الملايين، انتظروا أن تكون لهم قصة أسطورية وفشلوا بجدارة.. أنا لست بطلة خارقة، ولا اعرف أبطال خارقين.. كل من أعرفهم مثلي كبروا ليكتشفوا قسوة الحياة وكذب أساطير البطولة.. أنا لن أترك كل شيء وأسير بحصاني في الصحراء لأبحث عن الأمير المسحور.. لست شجاعة لأواجه أمنا الغولة.. شجاعتي فقط تكفي لشجارات الشارع والعمل والأصدقاء.
لن أترك حدود الأمان لعالم التجربة، لأن الحياة علمتني أن الشجاعة حماقة، وأن ست الحسن كانت فقط حسنة الحظ، غامرت وحصلت على ما تريد.. نحن لا نستطيع حتى وإن تحدثنا عن الحرية ألا نهتم بكلام الناس. أبطالك يا جدتي لا يكترثون بالآخرين، فضلا عن أن لا أحد يتهم بالفشل والجري وراء السراب.. لا أملك صبر الأميرة ولا قوة تحملها في السعي وراء الحلم، فصبري نفد في انتظار المترو الفاضي وأول الشهر وانتهاء اليوم.
الحياة مملة لا تشبه الحواديت.. لا أعتقد أن هناك قصة عن بطل يذهب للعمل, ويعود لينام، ليستيقظ وهكذا لسنواتٍ طويلة، دون أي تطور يُلحظ.
جدتي.. أنا لست مؤمنة بأحدٍ أو شيء حتى ألاحقه بعد أن يرحل عني.. لم أكتسب مهارة اللحاق بالقطار الذي يتركني.. فقط أرحل عن المحطة محملة بخيبات الأمل، وأنا من باب العلم بالشيء، لا تُعجبني النهايات السعيدة.