في كل مرة كنت بروح فيها المطار عشان أودع حد، كنت بشوف كل أنواع الوداع، الناس اللي بتسلم بإيد بتترعش وبتمسك نفسها عشان ماتعيطش. الناس اللي بتتشحتف وتفضل تعيط. الناس اللي بتودع حبايبها بابتسامة عريضة ولما يعدوا الحاجز يشهقوا من العياط المكتوم. والناس اللي بتودع بحضن بمسكة إيد، ببوسة.
حكايتي مع المسافات بدأت وأنا عندي تمن سنين. كنت براسل أنا وأختي شخص إسمه أليسون في أمريكا. طبعا إحنا ماكناش نعرف نوع أليسون البيولوجي عشان اللغة الإنجليزية ملهاش تأنيث للأفعال. وعمر ما كان فيه جواب لأليسون بيشير إذا كان ولد أو بنت. في مرة الحيرة اختفت لما أليسون بعتتلنا صورة ليها بهوت شورت، وتيشيرت رمادي، وشعر ناعم طويل، وكوتشي. في يوم سمعنا في النشرة عن إعصار ضرب الولاية اللي كانت فيها أليسون. وانقطعت الجوابات، وقعدنا نفكر في مصير أليسون، ونحلم نسافر أمريكا ندور عليها. ساعتها عرفت قد إيه المسافات شيء سخيف.
وأنا عندي خمستاشر سنة، سمعت لأول مرة صوت خالي اللي عايش في العراق واللي عمري ما شفته. خالي سافر قبل ما اتولد بكتير. وأول مكالمة سمعت فيها صوته، كان لسه عارف إني جيت للدنيا. كانت مكالمة عجيبة، كان بيسألني فيها إنتي شكلك إيه. ماعرفتش أرد، غير إني شبه بابا. خالي مكانش بيبعت لنا جوابات. كان بيكلمنا في التليفون، ويبقى الصوت بعيد. وأنا واخواتي وماما بنتخانق على التليفون، عشان نسمع صوته بأكتر قدر ممكن لحد المكالمة الجاية.
ذكرى في أغنيتها \”وحياتي عندك\” كانت بتقول: \”لازم أشوفك واسمع صوتك، ماتعودتش على جوابات\”
زمان كنت بقول لو كنا نعرف نكلم المسافرين صوت وصورة الموضوع هيهون شوية.. لحد ما جربت إن صديقة ليا سافرت، وكنت بكلمها على الاسكايب.. كنت بشوفها، وبسمع صوتها، بس ده كان بيحسسني قد إيه هي بعيدة أكتر. آلاف الكيلومترات وحدود وسفارات ومطارات بيني وبينها.. حسيت إن الصوت والصورة حبال دايبة تحسسك إنك ممكن تشوف الشخص البعيد عنك.. بس هو بيظل بعيد جدا.
مش لازم كل المسافات تكون سفر، ممكن تكون هجر أو خصام أو التلاهي اللي طلعتلنا في المقدر.
المرض كمان مسافة، جربت مرة إني عييت وقعدت في البيت ست شهور.. كنت بسمع صوت الناس القريبين مني كإنه جاي من بعيد، كإنه جاي من بلد تانية.. كنت بشوف الحمام بعيد والبلكونة بعيدة زي بُعد الشفا.
الموت برضه مسافة، بس اتجاه واحد.. بيشيل من عليك عبء الانتظار ويعلمك تقبل بالحاجات اللي مش هتتغير.. الميت مابيمشيش بخاطره، بيمشي غصب عنه. بيبقى عايز يعيش، ويكمل حياته ويتبسط، ويفضل يحب اللي حواليه. بس حاجة أكبر منه، ومن حب الحياة بتوقف كل شيء. الموت مسافة بس كلنا عارفين إن في يوم إحنا كمان هنروحلها. الموت مبيغدرش، إحنا بس اللي بننساه مع إن أول قاعدة ليه إنه مالوش معاد.
لما أبويا مات فضلت ترن في وداني حتة من أغنية \”في يوم في شهر في سنة\” لعبد الحليم حافظ، كان دايما بيقولها قبل ما يموت \”لو كان بإيدي كنت أفضل جنبك، وأجيب لعمري ألف عمر وأحبك\”
كنت باقنع نفسي إنه مسافر، ولما اليوم بقى شهر والشهر بقى سنة والسنة بقت عشرة.. اقتنعت إنه مش راجع. وكل ما يوحشني افتكر إنه مشي بس مش برضاه.. لو كان بإيده كان فِضِل.
الموت حنيِّن، مبيعشمناش. لكن أي غياب تاني بيرميلنا حتة أمل عشان نفضل نستنى. إحنا بنستنى رجوع المسافر ووصال المجافي وبنستنى الشفا.. بنستنى ومفيش على لساننا غير: \”يارب من له حبيب ماتحرموش منه ولا تلوعوش يا زمن إلا إن شبع منه\”