دينا ماهر تكتب: ونصبح ذكريات.. مجرد ذكريات

في بيتنا يتذكر الجميع جدتي بطبق كانت تجيد صنعه جيداً، طبق \”اللحمة بالدمعة\”.. حين تتجمع العائلة، تتذكر أمي وأخواتها روعة هذا الطبق الذي ماتت جدتي وهي تحمل سرها معه، أو ربما هو النفَس، الذي يجعل اتباع خطوات صنعه لا يأتي بنفس النتيجة.

كثيرا ما تقول أمي أنها من الممكن أن تبيع عمرها في مقابل معلقة من طبق دمعة جدتي.. طبعا أنا تعيسة الحظ لأني لم أر جدتي ولا حتى طبق اللحمة، لكن أتمنى من كل قلبي أن أرحل مخلفة ورائي ذكرى طيبة وشهية مثلها.

ربما لم يسعفني الحظ في صنع ذكريات مع جدتي، لكنني أتذكر أن كل من رحلوا بالسعادات الصغيرة التي وضعوها في قلبي، ويدي، وأذني، وعقلي، وروحي، وحتى جيبي.. أتذكر فقط صوتهم الهاديء، وأنسى صراخهم في الأيام الأخيرة، أو لحظات وداعهم. أتذكرهم والنضارة تعلو وجوههم قبل أن تتمكن منهم الهالات السوداء والتجاعيد.. أتذكر الفُسح، والسينما، والأكل الشهي، وأنسى لحظات الجفا.. أطرد لحظات البعد عن خلايا مخي ليحل محلها دفء الونس.

أنا أيضاً أريد أن أتحول لذكرى طيبة في عيون من حولي، فنحن لا يبقى منا سوى الذكريات.. بات واضحا أننا لن نحقق إنجازا تتذكرنا به الإنسانية، فليس بيننا عبقري فذ.. حقيقة مرعبة، لكنها واقعة، فنحن لن نستطيع سد ثقب الأوزون ولن نوقف الإحتباس الحراري، ولكن ما المانع أن نفعل شيئا طيبا لمن هم حولنا.. لماذا لا نصنع الذكريات مع من نحب، فنجعل سيرتنا الطيبة تلاحقنا بعد الموت.. الدنيا متفاتة كما تقول صديقتي، وما دايم غير السيرة الزينة، كما كانت تقول جدتي. فلماذا لا نفوت الدنيا ونحن ذكرى، أو كما يقول علي الحجار \”ليه منكونش ذكرى في الليلة الجميلة؟ ليه منكونش غنوة في الرحلة الطويلة؟\”

صنع الذكريات قد يبدو محملا بقدر كبير من إنكار الذات، لكنه لا يخلو من أنانية، فعادة ما نسمع أن من يحتضر يرى حياته في لقطات خاطفة، حين عرفت ذلك، شغل بالي ترى ماذا سأرى؟ لكن يبدو أن تلك الجملة تدفعنا لأكثر من التفكير، لعل دورنا في الحياة أن نجعل تلك اللقطات جميلة. ربما هدف الحياة التي لا يعرفه أحد يقيناً أن نحملها بذكريات حلوة تجعل فراقها لطيفاً على قلوبنا. ربما هدف الحياة أن نبدل الحزن فرحاً. أن نتركها ونحن راضون عن رحلتنا طالت أو قصرت. أن تكون المحصلة بالموجب، أن يكون شريط حياتنا سعيداً. حالياً أحاول أن أمحو ذكرياتي السيئة بأخرى أعذب وأرق. أن أمحو من عقلي وجوه من خذلوني ويبقى فقط من بقى بجانبي، حتى وإن كان وقوفهم يعني رحيل لا يسبب مزيد من الأمل والألم. أريد ألا أرى لحظات توتري، فلتبقى لحظات ارتفاع قدمي من فوق الأرض. أنسى لحظات المرض وآلام الجسد ويبقى حركة رأسي للوراء حين أضحك. فلأستعيد ذكرى من رحلوا قبلي، وكلي أمل أن أراهم في الحياة الأخرى. أجد نفسي متلبسةً بالنظر الطويل لمن أحب وما أحب. قد يسبب ذلك إزعاجاً لهم لكنني أريد أن أحفر تلك الملامح بذاكرتي. أن أخبئها بعيدا عن النسيان والشيخوخة.

عن نفسي أرغب بشدة أن يبدأ شريط حياتي بشفق قطبي وينتهي بوجوه أكثر من أحببتهم على الإطلاق، وأن يتخلل ذلك كتب قرأتها ومدن زورتها وشواطيء هادئة، ملابس خفيفة زاهية الألوان.. ضحكات أطفال عائلتي، ومذاق أفضل طبق مكرونة بالصلصة تذوقته، وصوت أم كلثوم يرن في أذني \”وضحكنا ضحك طفلين معاً وعدونا فسبقنا ظلنا\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top