في طفولتي لم أفهم التعبير الإنجليزي \”أنا آسف\”، كرد على جملة مثل \”والدي توفى\”.. قابلت صديقاً أمريكياً ذات مرة طلب أن أحدثه عن التحرش في مصر، وصفت له يوماً عادياً لفتاة مصرية من أسرة متوسطة. أخبرني أنه آسف.. حين سألته أنت لم ترتكب خطأ، فلماذا تتأسف؟ فأجابني أنه يأسف أن هناك من يعانون، وهو لا يستطيع المساعدة.. وقتها فهمت أنها تعني بلغتنا الدارجة جملة “معلش”.
كلنا نكره كلمة \”معلش\” التي لا تحل ولا تربط كما يقولون، لكن لا أحد يملك الحل والربط.. حقيقةً نحن لا نملك إلا مواساة، تحول وطننا لمأتم عزاء كبير.. يبكي البعض، ويربت على الأكتاف البعض الآخر.
كلنا نعرف أن المصيبة قريبة وستحدث لأي منا، وإنه كاس وداير.
من بين كل الهتافات التي هتفناها في السنوات الأخيرة، لا أجد هتافاً صادقاً أكثر من \”بكرة هييجي عليك الدور\”، ومع كل خبر عن مقتل أو خطف، أتابع الأمر وأتمنى ألا يكن المقصود صديقاً لي، ومهما بنينا من فقاعات حولنا يدخل الأسف، فقد تُخطف وأنت تسير في الشارع، وكأن الوطن يريد أن يقول لك لن تستطيع الهرب.
لا أعرف متى تحول هذا المكان لكل هذه البشاعة.. لا أذكر متى كانت آخر مرة شعرت أن هذا وطن، ولا كيف تحول الوطن لبيت رعب كبير، وكيف تحولت أحلام يومنا ألا يحدث لنا مكروه. أُجبرنا على ترك أحلامنا ومحاولات النجاة اليومية.. تفادينا الخروج من المنزل أو التحدث مع الآخرين.. صار الوطن مرعباً، وصارت الغربة رفيقاً طيباً نحن إليه.
نحن بؤساء أن ولدنا هنا، لا أعرف هل هو ذنب أهالينا أن أتوا بنا للعالم، أم قلة بصيرتهم التي دفعتهم للبقاء في وطن يتغذى على أحلام ابنائه، أم مجرد حظ عاثر جعلنا هنا! من سافر للخارج يعود ليتحدث عن نظافة الشارع والمواصلات العامة برومانسية شديدة كأنها أحلام.. لا أحد يعلم أن في بلاد بعيدة تنتقد الشعوب حكوماتها وتسخر من رؤسائها دون خوف من الاعتقال.
حتى الآن لم يلفظ العالم كله عقوبة الإعدام، لكن في وطننا فقط يعدم شباب دون دليل، وكأننا في مسرحية عبثية، والمخرج عايز كده.. نحن تحت سطوة جماعة من المخابيل ومؤيديهم، فنحن إما كفار أو خائنون للوطن، وكأن القتل والتعذيب وبيع الوطن ليس كفراً وخيانة!
ربما كان أهم سبب في عزوف شريحة كبيرة من جيلي عن إنجاب الأطفال، هو ألا نضطر للأسف كل صباح.. أنا لا أريد أن أنجب طفلاً أقول له: \”معلش\” في اليوم آلاف المرات.. معلش أنك لا تتعلم كبقية الأطفال.. معلش أنك تأكل طعاماً مسرطنا.. معلش أنك لست سوياً.. معلش أنك ترى الظلم ولا تملك سوى معلش مثلي.. معلش أنك مخير بين أن تصبح عديم الشخصية أو مطبلاتيا، لتنهي أيامك في أمان، وبين أن تعيش كإنسان وترفض العيش في سجن كبير، فيصبح مصيرك سجنا أصغر، أو حبل مشنقة لا يعرف الفرق بين الحق والباطل.. معلش إنك في مصر.
ابني العزيز الذي لم اره بعد، لأخبره كم كان هذا الوطن جميلا، أو كان سيكون، أو هذا ما خيل لي في سنوات حياتي الأولى.. أعدك لو تغيرت الأحوال، أو وجدت وطناً جديداً، ستأتي ولن أقول لك: معلش.