دينا ماهر تكتب: هنا زي هناك

كنت أتعجب حين أجد شخصاً يقول إنه يريد أن يبدأ كل شئ من جديد، وأتساءل: هل انتهت كل الطرق والسبل لنتركها ونفكر في غيرها؟

لكني أجد نفسي الآن أريد ذلك آلاف المرات كل يوم، تخيل معي روعة أن تترك خلفك أكوام الفشل الوظيفي والاجتماعي والعاطفي، أن ترمي في هوة سحيقة قلقك الذي لا ينتهي من الغد ومن الناس. أن تنسى كل ما فات بحلوه ومره وتكتب من أول السطر. أن تأتي لك الفرصة لتصليح أخطاء الماضي. أن يعاد الامتحان أو يمهلك القدر ثوانٍ من أجل رد أكثر فصاحة في موقف ما.

عن نفسي، لا أعرف من أين ابدأ، لكن دعنا نتخيل، وإن كنا عادة نبدأ من حيث انتهى الآخرون، فأفضل أن ابدأ بعد أن اكتشف الإنسان الزراعة. لا أعرف هل هذا كسل، أو قلة طموح، أم رغبة في العودة للماضي كما يقول الطب النفسي؟ لكني بعد يوم طويل شاق لا أجد ما هو أرحب من أرض منزلي لتمتص آلام ظهري. ربما هو عشق قديم للنباتات، فالنباتات لا تتحدث كثيراً مثلي. ليست كثيرة السؤال ولا الشكوى. هي فقط تنتظر منك اللطف والمعاملة الحسنة، وإن لم تجدها تبدأ في الذبول والموت في صمت. ليس هناك ما هو أرق من مساحة مزروعة تهمس لك أن العالم مازال بخير.
أتخيل نفسي أجري وسط حقول واسعة لا تنتهي، حين تفسد مخططاتي، فصرت أشعر بالراحة حين أجد مساحات خضراء أمامي. سألت نفسي يوماً ما، لماذا لا أترك الجمل بما حمل، وأتعلم الزراعة وأحصل على قطعة أرض صغيرة أزرعها، وأربي حيوانات كثيرة تلعب معي؟ بالطبع لن تكون حقولاً شاسعة، فالحقول الشاسعة تتطلب أموالاً طائلة. لكن يا سلام لو أني أعيش عيشة الفلاحة على رأي عبد الوهاب. أو أكون الحلوة التي تصحى والديك بيدن وفقاً لرواية سيد درويش.. مجرد التفكير في الأمر يصيبني بالسعادة. لكن يبقى التنفيذ صعباً، فهذا الحلم يحتاج لأحدهم، فهذا الحلم هو الوحيد الذي لا يستقيم بي وحدي. ربما هذا ما يطلقون عليه اسم حلم مشترك.

حاولت جذب الكثيرين ممن أحبهم لذلك الحلم. أو بمعنى أصح أن أتخير أشخاصًا يسعدون بالعزلة معي وأسعد بهم. لكن فاجأتني الردود، فلا أحد يريد أن يترك الحياة التي ألفها للمجهول. ربما هم على حق، فليس من السهل أن تترك كل شئ وأن تبدأ من جديد. أخبرني أصدقائي أن فشلي في تغيير حياتي ينتظرني كفشلي في حياتي. أما أمي، فذكرتني أن كل ما خلفي هو جهاز كمبيوتر ومجموعة من الكتب ومشغل أغاني، لأدرك أني مازلت جبانة، فلو أنا مثل كثيرين أملك بيت وزوج وأطفال، لما قررت أن ابدأ من جديد.

لكن ما المانع وأنا بدون عيّل أو تيّل أن أهرب حتى، وإن اتهمني من حولي بنقص الإرادة وعدم المحاولة؟ أنا أرى أن أحاول في مكان آخر، لكن ما أنهى منطقي هو قول صديقي أن أبقى هنا، فهنا زي هناك.. لا فرق، وهناك سيصير يوماً متعباً مملاً يجب الهرب منه. لينهي صديقي كلامه بجملة: \”مرحباً بكِ في الحياة.\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top