دينا ماهر تكتب: ماذا فعل الإنسان بأخيه الإنسان؟


أول حادث في تاريخ الإنسانية يكدر الصفو العام كان جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل. حين كنت أسمع القصة كنت أتمنى ألا يظهر الغراب في القصة ويُعلم قابيل كيف يدفن هابيل. ربما لو عرف من هم بعد قابيل أن جريمته لم يمح أثرها، لما فعلوها بعده.

تخيل أن من يقتل شخصا تظل الجثة شاخصة أمامه.. تتحلل وتتعفن وهي بجانبه لتذكره دومًا بما فعله. لكن من هذا المنطلق فإن من يموتون موتة ربنا كما يقولون سيظلون معنا بالطبع، فلا أحد يعرف كيف يتخلص من جثث الموتى. تلك فرضية حالمة تنتمي لعالم ساراماجو، لكنها
مرهقة للجميع. فليس من العدل أن يتحمل أحدهم جثة حبيب أو صديق قديم، فلا ينعم بلحظة من النسيان.
لكن على الجانب الذي يقتل فيه آخرون آخرين، فأنا أرى التصاق جثة الميت بقاتله عقابًا عادلًا لجريمة شنعاء، جرمتها الديانات السماوية والأرضية والأعراف البشرية. أو بقول آخر وضعتها ضمن إطار قانوني أو خلقت لها آلية لجعلها تبدو مستساغة للعالم. فتارة تحدثنا النظم الدولية عن القتل بإسم العدل والقتل من أجل السلام والقتل لأن المصلحة العامة تقتضي ذلك.
بصفتي محبة لأدب ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ومحبة لريمارك هذا الأديب الألماني الذي خلد مشاعر جنود الحرب وعدم فهمهم لما يفعلونه وسؤالهم الدائم: لماذا يجب أن أقتل في رواياته، كرواية \”كل شيء هاديء في الجبهة الغربية\”،  وكأبطال ريمارك لفظت بعض القوميات الراسخة في وجداني، لكن مازال هناك ما يقف بيني وبين التمسك بقضية الإنسان في العموم، فعنصريتي تدفعني لكراهية البعض بالطبع، وأرى كما قد يرى الكثيرون غيري أن الإنسانية قد جنت على نفسها كبراقش. فالحوادث الطبيعية قد قتلت أعدادا ضئيلة مقارنة بما فعله الإنسان من حروب ومجازر وتطهير عرقي واختراعات غير محسوبة الخطورة وتلوث للبيئة. كما أن هناك قضايا لم أستطع أن أتخلى نهائيًا عن الانحياز لها.
لكني أفكر كل يوم هل ستجبرني الظروف أن أقتل أحدهم؟ وترى ما الذي قد يدفعني للقتل؟ هل هو الدين أم الوطن أم الرغبة في الحياة؟ أمتلك مشاعر مختلطة تجاه الموت، لا أحبه ولا أكرهه، بل أجده ضرورة وحلا إلهيا للكثير من المشاكل. لكن الموت ليس القتل. ربما اعتبرنا القتل موت إجباري. ولطالما ما رأيت إن الإجبار هو أسوأ جريمة عرفها العالم.
لكن ما الذي تفعله الحضارة أمام رغبة الإنسان في القتل؟!

لم أكن من الداعين لإلغاء عقوبة الإعدام أو الإبقاء عليها، فدائمًا ما أخشى أن أصدر أحكامًا عامة على أشياء لم أمر بها. ربما يأتي يوم يقتل فيه عزيز لدي وأتمنى أن يموت القاتل. أخبرتني صديقة تدافع عن إلغاء عقوبة الإعدام أنه لا يجب أن نعاقب قاتلا بالقتل. فكيف نخبره أن ما فعله سيئا ونرتكب نفس الفعل؟!
شاهدت وثائقيًا عن أب نرويجي مات ابنه المراهق في حادث إرهابي، وحوكم القاتل بالسجن المؤبد لمدة واحد وعشرين عامًا. وحين سئل الأب إن كان يتمنى أن يعدم القاتل، قال بل كنت أتمنى ألا يموت ولدي من البداية.

ذهلت من إجابة الأب وحسدته على تصالحه مع العالم، وفي بداية الأمر اعتقدت أن تلك هي طريقة تفكير الناس هكذا في النرويج، لكن من المرجح أن نكون نحن في بلاد الظلم والقهر لسنا ناسا. فنحن كائنات تضاءلت إنسانيتها شيئًا فشيئًا حتى تعطشنا للانتقام لا للقانون. ففي مجتمعات يسكت فيها الفرد على حقه في الاحتياجات الأساسية ممنيًا نفسه بالرخاء الاقتصادي، وفي مجتمعات عماها التعصب والكراهية فيقوم أحد مراهقيها بقتل العشرات بدم بارد ظنًا أن الجنة نهايته، لا يجوز الكلام عن الإنسانية.. في مجتمعات تعودت أن لون الإنسان وجنسه ودياناته تحدد مصيره، ليس للحديث عن السلام العالمي والحب والخير والجمال مكان.

ولنكن منصفين، فإنني علمت لاحقًا أن مرتكب جريمة قتل المراهق النرويجي كان من النازيين الجدد. بمعنى آخر هو إنسان تربى في بلد يحترم كونه إنسانًا.. لم أتعجب من الأمر، فغير ذلك النازي هناك آلاف عاشوا وتربوا في دول تحترم حقوق الإنسان وانضموا لتنظيمات إرهابية وأحزاب عنصرية.. وكأن جينات القتل التي ورثناها من جدنا قابيل تأبى أن تتركنا وشأننا.. ليظل السؤال معلقًا: ماذا فعل الإنسان بأخيه الإنسان؟

ما يفعله دائمًا.. يقتله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top