على عكس ما يقال دائما \”إنّا كبرنا يا أمي\”، أشعر أني مازلت صغيرة جدا. إذا ما تغاضينا عن الأوراق الرسمية، فأنا مازلت في السابعة من عمري. مازلت أشعر بمغص البطن عند الخروج من المنزل ومواجهة الشارع، كخوفي من ميس عفاف لأني لم أكتب الدرس عشر مرات. مازلت أغير طريقي خوفا من الكلاب، فأمشي في طرق أطول. أخاف كل ما هو جديد، عمل، أشخاص، مكان. لا أنام ليلا من فرط الحماسة مع كل بداية جديدة. أنتظر بكرة الذي سأكبر فيه وأصبح أكثر قوة وأضحك على ما حدث في الماضي. أنتظر أن تتضاءل مشاكلي وأعتبرها تفاهات لا يجب أن ألتفت لها. مازلت أضحك على النكت القديمة ولا أسأم من مشاهدة الكارتون طوال الليل.
ناهيك عن دهولتي الدائمة ونكشة شعري، وقولك لي: \”يا بنتي سرحي شعرك\”. وأنا أتحجج بالموضة وضرورة تحرر الإنسان من القوالب، لكني في الحقيقة، أكره تسريح الشعر وكوي الملابس وترتيب السرير. مازلت صغيرة يا أمي أستمع لأغاني الأطفال وأرقص عليها. أشاهد الأفلام وأبكي رغم علمي التام أنه تمثيل في تمثيل. أخبيء الحلوى منكِ تحت مخدتي حتى لا تتحدثي معي عن تسوس الأسنان.
حتى الآن حين أمرض، أذهب لطبيبي منذ الطفولة ولا أرغب في تغييره. أتغاضى عن يافطة \”دكتور أطفال\” المعلقة بمدخل العمارة. ولا أفكر في ملصقات الفيل والدب والقرد التي تملأ الجدران. وقصص الأمهات في العيادة عن دور اللوز اللي بييجي عشان العيال بتستحمى وتقف قدام المروحة. فأبتسم وأنا أفكر في نصائحك الدائمة لي وتطنيشي الدائم وهوسي بالوقوف أمام المروحة عقب الإستحمام.
كنت أتمنى يا أمي أن أكبر لأثبت لكِ أني لن أتحدث مثلك عن اللحمة اللي بخمس قروش أو أتهم من هم أصغر مني سنا إنه جيل بايظ . لكني فضلت البقاء في الطفولة، وأرفض الخروج منها.. أحيط نفسي دائما بهالة من النضج الزائف. أتهرب من المسؤولية وأداء العمل كهروبي من أداء الواجب أمام التلفاز. مازالت لا أتقن شيء أو أتمه حتى النهاية. ونظرا لاعتقادي الدائم أن كل الأمراض تذهب بالنوم، أغمض عيني وأتخيل نفسي في كابوس مزعج لأتغلب على المواقف الصعبة.
تقولين إني بنت موت لكثرة من رأيتهم يموتون، لكن بعد كل هذا الموت، مازلت أخشى الموت وأخشى الفقد. متى نكبر يا أمي ولا نخاف الموت، ونواجه ما نخاف ونتحمل نتائج إختياراتنا وأقدامنا ثابتة على الأرض؟ متى يتطابق عمرنا في ورق الحكومة مع ما نشعر به؟ أم أن الإنسان يكبر حين يعرف أكثر؟ رغم كل ما أعرفه، مازلت لا أستطيع مواجهة ما أخافه، وتحمل تبعات ما أفعل. لست مثلك يا أمي أتقبل الهزائم بشجاعة. أتذكر حين توفى أبوكِ وكان والدي مريضا في المستشفى.. ذهبتي لدفن والدك وعدتي للمنزل لتغيير ملابسك وذهبتي لأبي مبتسمة في ميعاد الزيارة، ولم تخبريه بالأمر. أما أنا أختنق بالدموع حين يسألني أحدهم عن \”بابا\”، لأخبره بصوت مرتعش: مات من عشرين سنة.
لم أتخيل يوماً ما أن تصير لي ذكريات عمرها عشرين عاما. في ميعاد تجديد بطاقتي الشخصية، سأطالب بتغيير عام شهادة الميلاد، الحكومة كاذبة وأعطتني عشرين عاماً زيادة. وكما تقولين يا أمي: \”العبيط بس اللي يصدق الحكومة\”، وأنا طفلة لكني لست عبيطة.