هذه الحياة صعبة.. جملة نقولها دائمًا من كبيرنا لصغيرنا، من أغنانا لأفقرنا. ربما هناك من لهم الحق في الشكوى من صعوبة الحياة، فهناك من يموتوا من أجل كسرة خبز أو شربة ماء، وهناك من يملك كافة سبل الحياة ويملك الوقت الكافي ليسأل نفسه: لِمَ نعيش؟ فيعرف كم أن الإجابة صعبة كالحياة. لا تتساوى صعوبة الحياة، لكننا نعلم أنها صعبة، ضعاف الحيلة كنا أو أقوياء.
وكما أن الحياة عبء نفسي هائل، نحن أيضًا أعباء عليها. ليس ما أقصده هو تخريب الإنسان للبيئة المحيطة على سبيل التجريب أو الرعونة أو المراهقة. لكن ما أعنيه أننا عبء بالمعنى الحرفي على بعضنا البعض. فالطفل عبء على والدته التي لا تتحمله منذ كان جزءا صغيرا يتكون في رحمها. وهذا الطفل يحمل عبء مجيئه للحياة نظير رغبة والديه. كلنا هموم وأحمال فوق بعضنا البعض. حتى إن الواحد منا يسير في الشارع يحمل أطنانًا من الأحمال. كيف سيستيقظ في موعده وماذا سيتناول من الطعام؟ هل سيجد مكانًا فارغًا بالحافلة اليوم أو مكانا لركن سيارته أم سينتظر بعض الوقت؟ هل سينجز عمله في الوقت المحدد على أكمل وجه أم ستتراكم عليه الأعباء؟
أستيقظ محملة بأعباء كثيرة لا أستطيع تركها فوق سريري قبل الرحيل. يخيل لي أن أقنع أعبائي بالنزول من فوق كتفي لمدة يوم واحد، أو أن أبحث عمن يتحملها عوضًا عني، لكن من يتحمل عني عبء أن تركت أحمالي لآخرين؟! أجد أنه لا مناص من حمل همومي والاستعداد لبداية اليوم، وخلال يومي أجد بعض الهموم تتساقط وأخرى تصعد مكانها بترتيب بالغ الدقة. تأتي أيام لا أستطيع تحمل كل هذا الكم، فأفكر في الابتعاد حتى لا تقع أحمالي فوق رأس أول من سأقابله، وأصرخ في وجهه بهيستريا. فأعبائي يجب أن أتحملها ويكفي أنني عبء على آخرين بحياتي.
يلازمني شعوري بكوني عبئا منذ ولادتي، فأنا عبء على أسرتي. في المدرسة أنا أشغل حيزًا من التختة ربما يحتاجه أحد غيري. في الجامعة ربما تلك الكلية التي دخلتها مرغمة هي حلم أحدهم الذي لم يتمكن في تحقيقه. في الزحام أشعر أنني السبب فربما عدم وجودي يخفف جانبا من المشكلة السكانية. وفي خضم التفكير، أجد نفسي أدور في دائرة من الإحساس بالذنب وأقابل فيها كل من أعرفهم، من كنت لهم عبئًا ومن كانوا لي أعباء.. دائرة قطرها بطول العالم مليئة بملايين الأشخاص محنيي الظهور بارزي العروق. يموت أحدنا فتسقط الأعباء عنه حتى تجد من يرثها سواء كان ابنا أو زوجة أو مرؤوسا بالعمل.
أفكر في الإنسان الأول الذي كان يحمل أعباء العيش ليوم جديد فقط، فأفكر هل أحسده أم أكتب له مرثية تليق بنضاله وتذكرني بضعفي. هل كان ذلك الإنسان الذي يرى شمس اليوم فيبتسم أنه عاش ليوم آخر، يتخيل أن يأتي أحفاد له ينظرون للشمس في انكسار أنهم سيعيشون يومًا جديدًا.
تخبرني صديقتي دائمًا أن الحضارة خذلتنا، فرغم التقدم مازال أمامنا الكثير لم نخترعه بعد، ومازالت لدينا أمور عالقة لا نجد لها حلا. لكننا كما خذلتنا الحضارة خذلناها. فالعالم يتحدث عن التضامن والإخاء والمساواة والحرية، لكننا في أكبر الديمقراطيات نجد أن هناك اضطهادا وتقييدا للحريات، ليعرف العالم أنه لم يتعلم شيئا سوى الشعارات الجوفاء التي لا تصنع شيئًا على أرض الواقع، لكنها استراتيجية تسويقية ناجحة. فندرك أننا تخلينا عن مهنة أجدادنا في الصيد والبقاء أحياء، لنقوم بالتسويق للحياة، لنبيع الحياة لا نعيشها، لنجد مبررات دائمًا تجعلنا نتحمل الأعباء.. والأهم أن نتحمل فكرة كوننا عبئا في الوقت ذاته.