طنط خديجة جارتنا منذ زمن بعيد.. أراها كل يوم من نافذة المطبخ، سمراء ترتدي عباءة سوداء، وتحمل أكياس الخضراوات والبقالة وتفاوض البائع على الثمن.. لولا لكنتها المغربية لظننتها امرأة مصرية عادية.
خديجة مغربية الأصل، لكنها تحمل الجنسية المصرية، وتعيش بيننا منذ عشرين عاما أو أكثر.. يبدو الأمر عاديا لا يبشر بقصة أو بداية مقال.
سيدة تركت بلدها الأم لبلد آخر -بلد زوجها- واندمجت في تفاصيله اليومية، لكننا استيقظنا يوماً لنجد طنط خديجة تذهب لبقال آخر وبائع خضر آخر غير الذي بشارعنا.
لم نعرف السبب وقتها، الناس تغير عاداتها لأسباب مختلفة.. ربما لا تعجبها البضاعة أو وجدت من يبيع بثمن أرخص.. قابلتها مرة أمام منزلها، وسألتها عن الأحوال، وأنا أنتظر أن تحكي لي قصة مشادة بينها وبين البقال أدت بها إلى الذهاب لغيره، لكنها أوضحت لي أن الأمر ليس قصة بائع وأسعار.. السبب هو خلاف مع أحد الجارات حول أحوال البلد.. ضاقت طنط خديجة بارتفاع الأسعار والقهر والظلم، وللأسف تحدثت مع جارتها في الأمر معلنة أن المركب لن تسير هكذا.
اتهمتها جارتها بكراهية مصر، وطلبت منها ألا تتحدث في الشأن الداخلي المصري، وأن توفر انتقاداتها لبلدها الأم، مذيلة حديثها بجملة \”كل واحد يخليه في بلده\”، وكأن السنوات الطويلة التي تعيشها بيننا لا تكفي لتتحدث عما يجري حولها!
لم يقتنع الجيران أن طنط خديجة صارت مصرية مثلنا تماماً، رغم أنها تحمل الجنسية المصرية، لديها بطاقة رقم قومي، وتعيش بيننا، وتتحمل ما نتحمله يومياً من معاناة، لكن كيف تعترض أو تبدي رأيًا مخالفًا لأغلبية لا تسمع غير صوتها فقط.
حاولت أن أقنع طنط أنها مصرية مثلنا، وعليها أن تبدي اعتراضها على الأوضاع إن أرادت، لكنها فضلت الابتعاد.
صرنا لا نراها تقريباً، ولا نسمعها تضحك مع الباعة.. تغيرت طنط وبدت كما لو أنها في سجن انفرادي لا تحدث أحدا.
تفهمت موقفها، فأنا مصرية أباً عن جد، لكنني لا أقوى على الدخول في نقاش لا يجدي مع أحد من مؤيدي النظام حول أحوال البلد.. ليس جبناً، ولكن توفيراً للوقت والجهد وأدوية ارتفاع ضغط الدم.
أتذكر طنط خديجة وأنا أتابع خبر ترحيل المذيعة ليليان داوود.. ليليان ليست مصرية، لكنها تعيش في مصر ولها طفلة تحمل الجنسية المصرية، ولا أجد ما هو إثبات لمصرية أحدهم أكثر من كونه يتحمل الحياة هنا هو وأبنائه، فكيف يقومون بترحيلها، وبهذا الشكل، بل ويمنعونها من الاتصال بمحاميها أو سفارة بلدها الأم!
أكاد أسمع ذات الجملة التي سمعتها طنط خديجة من جارتها: \”كل واحد يخليه في بلده\”، ولكنها تخرج من خلف أحد المكاتب الفخمة هذه المرة.
ربما السلطة في حاجة لمراجعة القوانين، فالأفضل أن تلغي قوانين التجنس، وأن تغلق السفارات وأن تمنع دخول غير المصريين، وتبقي على سياسات حبس المعارضين والتنكيل بأسرهم، ولتسير نورماندي، بالطبل والزمر وانتشاءات البطولة المزيفة.
وبالنسبة لنظرية \”كل واحد يخليه في بلده\”.. فهذا كلام عاقل حكيم، أتفق معه بشدة.. كل واحد يخليه في بلده، ونعدكم كمصريين خالصين، هنخلينا في بلدنا.. بس على شرط.. تقولوا لنا: هي فين البلد دي؟!