عزيزي (ع)، يأتي خطابي لك متأخرًا عشرين عامًا.
لا اعرف إن كنت ستتذكرني أم لا، لكن لا يهم. فقد اعتدت أن ابعث خطابات لا تصل، لكن دعني احاول تنشيط ذاكرتك.
كنا زملاء فصل واحد في مدرسة تنتهج الحزم والشدة.. فقدت أنا والدي في الصف الرابع الابتدائي، لابد أنك شعرت بالحزن من أجلي، لكنك لم تصرح.
أنا أيضًا لم اصارح أحدًا عن خوفي من مواجهة العالم. اعرف أننا لم نكن صديقين مقربين، لكنني طالما تمنيت أن أخبر أحدًا عن خوفي من الذهاب للمدرسة في الأيام التي تلت وفاة والدي.
كنت أكثر ما أخشى مواجهته المواساة.. مكثت في المنزل خوفًا من مواجهات أعرفها رغم صغر سني.. كنت أشعر أن كلمة \”الله يرحمه\” ستؤلم قلبي كألم خرزانة ميس عفاف مشرفة الدور.
كنت لا أريد أن أعترف يا (ع) أن أبي لم يعد موجودًا، ولا أريد تذكرة من أحدهم أنه لن يعود.
ذهبت للمدرسة وظللت أنظر للسقف حتى أمنع دموعي. أهز جسدي تذمرًا من محاولات زملائي التربيت على كتفي.. كنت ألاحظ نظراتك الرقيقة من بعيد ورفضك المشاركة في أي رد فعل.. كنت أرى نظرات كراهيتك للمعلمة التي سألتني عن سبب بكائي فجأة حين أخفقت في الرد على سؤال، واتهمتني بالحساسية المفرطة والدلع.
ربما لم تسنح لي الفرصة يا (ع) أن أخبرك كم كنت مميزًا.. لا استطيع أن انسى كم كنت ذكيًا.. أنا مازلت اذكر نظارتك النظيفة دائمًا.. اتذكر الفتيات الأصغر منا سنًا، حين كن يأتين للفصل لرؤيتك والابتسام في وجهك، والرحيل فقط.
لم أخبرك عن غيرتي منك حين كنت تحصل على درجات أعلى، أو تجيب على مسألة حسابية معقدة، فشلت أنا في حلها.. يقولون إننا ننبهر بما لم نستطع فعله، وأنا أعترف أنني انبهرت بك، وانبهرت بتفوقك في مادة الحساب، وانبهرت بقوتك في وفاة والدك التي تلت وفاة والدي بوقت قليل.
اذكر كيف لم يتغير تعبير وجهك الهاديء، وكيف واجهت الأمر بشجاعة، وكيف اكسبني ثباتك قوة.
كنت أحكي لأمي عن زميل لي مات أبوه لكنه لا يبدو ضعيفًا مثلي. تمنيت يا (ع) أن أصبح قوية مثلك، ربما توطدت علاقتنا دون أن ندري، فبعد أن كنا مجرد متنافسين على لقب الألفا، صرنا ننظر لبعضنا البعض نظرات تشجيعية حين يسألنا أحدهم السؤال السخيف \”بابا بيشتغل إيه\”، فتقول أنت \”متوفي\” بابتسامة خفيفة، بينما أرتبك أنا وأقول \”مهندس بس هو دلوقتي ميت\”.
كنا نحمل سرًا صغيرًا أنا وأنت، وهو الضجر من اهتمام المدرسة بنا كأطفال أيتام، وكيف كانت تأتي المعلمة الجديدة بورقة تحمل اسمينا وتسأل: أين (ع) ودينا؟
كنا نرتبك ثم اعتدنا الأمر. هل تتذكر يا (ع) ميس همت، التي انبهرت بمستوانا في مادة اللغة العربية، وأخبرتها أنت أنه لا علاقة بين فقد الأب والتحصيل الدراسي؟
ترى ماذا فعلت بك الأيام يا (ع)؟ هل أصبحت مهندسًا أم طبيبًا كما تمنت والدتك؟ هل مازلت تشتري شريط عمرو دياب فور صدوره؟ هل مازلت تفضل الأغنية رقم أربعة في الوجه الأول؟
اعترف لك أننا حين تركنا المدرسة الإعدادية، كنت احاول تخمين أية أغنية كنت ستفضلها أنت، والحقيقة كنت دائمًا ما أجد الأغنية رقم أربعة تناسبك.
حين أخبرت صديقة لي أنني سأكتب خطابًا لصديق قديم من أيام المدرسة، سألتني إذا كانت بيننا قصة حب طفولي، لم أرد أن أحبطها بأن ما يجمعنا هو وفاة الأب في سن مبكرة.. ربما كان هذا أقوى من الحب.. لقد تشاركنا الحزن يا (ع).. تشاركنا الحزن والغضب وتحمل المسؤولية.. تشاركنا حتى كراهية من تعامل معنا كحالات خاصة.
عزيزي (ع)، اتمنى أن تقرأ خطابي وأن تتذكرني.. اتمنى أن تصير حياتك كما خططت، واتمنى أن يمر عليك يوم اليتيم وأنت تتهكم على الفكرة وسخافتها، وأن تظل كما رأيتك آخر مرة، تحبط من يتعامل معك كباب للثواب، ومن يعاملك بالحسنى ليدخل الجنة.
اعلم يا (ع) أنك لن تترك أحدًا يدخل الجنة على قفاك، وأنا أيضًا لن أفعل