تخيل معي عزيزي القاريء عزاء لأحد أفراد أسرتك توفى بسبب التدخين، أو توفى بسبب مرض السكري جراء تناوله كميات كبيرة من الحلوى. وتخيل معي أن يأتي أحدهم ليقدم التعازي والمواساة، ثم يكمل: \”بس هو اللي غلطان، هو اللي قتل نفسه، وألقى بنفسه للتهلكة\”.. طبعًا أتفهم أن تقوم برميه بأكواب القهوة السادة الساخنة أو تكسر صوان العزاء فوق رأسه.. لك مطلق الحق.
وبالمثل أتابع ردود الأفعال على غرق مئتي شخص في حادث رشيد.
أفتح التلفاز لأجد مذيعًا يواسي والد أحد الضحايا، ثم يكمل: \”لا أعفيك من المسؤولية، فأنت تركته يذهب ليموت\”! أغلق التلفاز وأنا أستشيط غضبًا. أتابع صفحات السوشيال ميديا لأجد سيدة مجتمع مرموقة تقول: \”ما لو عايز يموت ما ينتحر ليه يبهدلنا معاه\”، ولا أعرف من أين أتت البهدلة؟ هل طالبك أحدهم بانتشال الجثث، هل تدفعين ثمن الكفن؟ هل أجبرك أحدهم على تقديم واجب العزاء؟ لم يطلب منكم أحد شيئا، فلماذا هذا الهجوم على الموتى وأسرهم؟!
يحدثنا التاريخ العربي عن قصة شهيرة حدثت في فترة الفتنة بين علي ومعاوية، يقال إن رجلا قال له الرسول إنه ستقتله الفئة الباغية.. تمر السنون وتشتعل الحرب بين أنصار علي بن أبي طالب وأنصار معاوية، ويحارب هذا الرجل في جبهة علي.
يموت الرجل على يد رجال معاوية الذين يتذكرون القصة، فيعرفوا أنهم الفئة الباغية، ليخرج عليهم معاوية برأيه: \”بل قتله من أخرجه\”، قاصدًا علي.
تطورت حكمة معاوية المستفزة، ليتبناها المصريون، فالميت يجب أن يلام دائمًا على اختياراته.. كيف تموت شيماء الصباغ، كيف تنزل للشارع للمشاركة في مظاهرة؟ كيف يحاول أحدهم الهروب من مصر ويموت؟ حتى صار الهجوم على الموتى صفة تُلصق بالمصريين كخفة الدم والفهلوة.
أعرف أن جزءا كبيرا من الهجوم يأتي بعد زيارة الرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وسؤاله عن الأوضاع الاقتصادية السيئة للبلاد ورده بأنها مبالغات إعلامية، وها هو العالم يرى أنها ليست مبالغات، وأن هناك المئات يفضلون المخاطرة بحياتهم رغبة في الحياة في مكان آخر، فضلًا عن ملايين يحاولون السفر بطرق قانونية وملايين يفكرون في السفر ولا يستطيعون فعل شيء.
كنا دائمًا ما نسمع أن مبارك كويس لكن من حوله وحشين، وكأن من حوله جئنا نحن بهم ولم يخترهم هو بنفسه.
ظلت النغمة حتى مع الرئيس الحالي، لكن يبدو أن المقياس قد اتسع ليشمل الشعب! فالرئيس جيد والشعب هو اللي مش وش نعمة!
تنهال علينا تعليقات الإعلام عن الشباب الفاشل الذي لا يريد أن يتعب، رغم أن هناك ملايين يعملون ليل نهار لكن لا نتيجة.
ربما المواطن ليس مقصرًا، ربما نظام التعليم فاشل لدرجة تجعل قلته أحسن، ربما ليست هناك فرص عمل، ربما الحياة في مصر تقتل أي فرصة للنجاح.
صارت قصص النجاح التي يتلوها مؤيدو النظام مضحكة، فهم كالذي يبحث عن إبرة في كومة قش.. قصص تليق ببرامج الأسر المنتجة، لا بدولة تدّعي ليل نهار أنها أم الدنيا، فتارة نجد من يطالبنا بزراعة سطح المنزل، وتارة نجد من يحاول إقناعنا أن المنتج المصري أفضل من الأجنبي.. كان على عيننا يا جماعة، كنت أتمنى أن نعدكم بأن نظل في مصر ولا نحاول الهرب ونزرع السطوح ونشتري المنتج المصري ونعطي الفكة للوطن، لكن ليس عندنا سطوح، والمنتج المصري سيء.. أما الفكة فنحن نعلم أنكم ستأخذونها غصبا.