دينا ماهر تكتب: أبناء البطة السوداء أم البيضاء؟

في العام 1999 قامت شركة \” MULLEN LOWE\”  بعمل حملة إعلانية لموقع \”Monster.com\” للتوظيف.

يظهر في الحملة مجموعة من الأطفال يتحدثون عن رغبتهم في العمل في وظائف عادية، يرغبون في العمل في تقسيم الملفات طوال اليوم، وإطاعة الأوامر.

كان نجاح الحملة باهراً، فالحملة لعبت على نزعة الخوف لدى الناس من تحولهم لموظفين، وربما كانت تلعب على الخوف من العادية.

كلنا نخاف من أن نصبح عاديين، ويمثل هذا تهديدا صارخا لنا. يبدو الأمر مضحكا بعض الشئ، فالأمر أشبه بقطيع من الحيوانات يتصارع كله على لقب الألفا.

أعرف أن حياة الإنسان غير قابلة للقياس على عالم الحيوان، لكنه مجرد تشبيه، وحتى نكون أكثر موضوعية، لو أن التميز هو ارتداء اللون الأسود، فإن مع تزايد ارتدائه، سيصبح اللون الأسود هو السائد، ليتضح أن الفرق بين العادي وغير العادي هو حجم انتشاره فقط.

لكن هذا لا ينفي أن هناك أشياء مغايرة ومتميزة لا ينقصها أو يزيدها مجموع المعجبين بها. لكن رغبة الإنسان المحمومة في التميز قد تجعله يلفظ ما يريده بشدة لأنه وجد الكثيرين غيره يعجبهم ذات الشيء.

وأنا لا أعلم من جعل فكرة التميز بهذه الضحالة، فالست أم كلثوم ستظل الست، وإن سمعها شخص أو مليون، فذلك لن ينقصها أو يزيدها.. لا يمكن لعاقل أن يصدق أن يتخلى أحدهم عن حبه للست لأنها أصبحت موضة!

في مراهقتي كان الشخص غير العادي، لديه مواصفات خاصة، فهو بيحب السهر، يفضل آيس كريم المستكة، يستمع لنوع معين من الموسيقى.

أرفض وضع الناس في قوالب، لكن هذا كان مفهوم الكثيرين من حولي عن التميز. بالنسبة لمراهقة تحب آيس كريم الفانيليا وتكتئب حين تغيب الشمس، كان ينتظرني مستقبلا بارعا من الحياة العادية، فأنا أبعد ما يكون عن التميز.

حاربت كثيرا كي أثبت لنفسي ولغيري أني لست عادية.. ارتكبت الكثير من الحماقات لأبدو غريبة.. اتسعت دائرة من أعرفهم، فأكتشف أن هناك نسخا كثيرة مني. فأذهب للتفكير خارج الصندوق، وأستمر في رحلة البحث عن الإختلاف، حتى قطعت الصندوق ورميته في الزبالة.

في قصة البطة السوداء، كانت البطة تعاني من كونها تختلف عن بقية إخوتها، نظرا لاختلاف اللون، لكننا نجد اليوم من يطلي نفسه باللون الأسود وسط قطيع البط الأبيض ليبدو متفرداً!

فهناك من يقول رأيا غريبا –قفط- ليبدو مختلفاً.

هناك من يتهم من حوله بالضحالة والسطحية لمجرد تفكيرهم في شئ يراه تافها.

الراغب في التميز الظاهري نراه دائما في البيت والشارع والنادي وعلى النت.. يوشك الواحد منهم أن يتعجب من أنك تذهب لدورة المياة عشان تعمل زي الناس، فيحدثك ساعة ونصف عن تحطيم التابوهات ورفض ما هو مفروض!

وفي دائرة الإبهار، يبدو الأمر وكأنه مزاد علني.. تقول إنك تقرأ لفلان، فيخبرك أحدهم أن فلان مش قد كده، وإن فيه علان، ليأتي آخر ويخبرك أن ترتان هو الأفضل، وبين كل هؤلاء يضيع من يحب الأشياء حقيقةَ، لا رغبة في التميز.

لقد عشنا أياما صعبة كمراهقين لإثبات تميزنا، وأياما أصعب كشباب لإثبات عاديتنا، لأن الموضة تغيرت، وأصبحت الأشياء الطبيعية غاية في الغرابة والتميز.

حاليا النوم المبكر هو قمة التميز، حين أخبر أحدا أن معاد نومي مبكر، ينبهر بي. ولا أستطيع أن أخفي شماتة، وعلى لساني جملة: \”مش دي اللي كنتم بتتريقوا عليها، دلوقتي بقت البريمو؟\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top