تفرض علينا ضرورات الحياة، ويجبرنا تعدد أدوارنا فيها أن نتعامل مع بعضنا البعض من وراء الأقنعة، ولأننا نعيش في عالم يضج بالسطحية والإدعاءات والمظاهر، ويحتدم فيه الصراع وتتصادم المصالح، ولأن البعض يُسرف في إدعاء ما ليس فيهم لأغراض خبيثة في نفوسهم وسعيا لما لا يستحقون من المكاسب المادية أو المعنوية٬ لهذا تشوهت فكرة الناس عن الأقنعة، وطالها كثير من سوء السمعة، وربط الكثيرون بينها وبين الخداع والاحتيال.
لكن تعميم هذه الفكرة خاطئ، فكلنا نرتدي الأقنعة سواء شئنا الاعتراف بذلك أم أبينا.. بعضنا يستخدمها كدرع ليحمي نفسه من التألم، وبعضنا يرتديها هرباً من عالم يراه قبيحاً مستهجناً، لكن لا تسمح له ظروفه بالانعزال عنه بشكل واقعي، فيواجهه من وراء القناع، وبعضنا يرتديها ليستر بها عيوبه كي يكون مقبولاً مجتمعياً٬ وكلنا يستخدمها للعب أدوار اجتماعية متنوعة كدور الأب أو الزوج أو المدير.
الأمثلة كثيرة تنأي عن الحصر، فالكاتب الذي يكتب تحت اسم مستعار، والفتاة التي تُكثر من وضع المساحيق، والشخص الذي يُكثر من المجاملة، والذي يبتسم ليداري توعكاً بالقلب، والذي يتظاهر بالثقة ليخفي شعوراً داخلياً بأنه أقل من الآخرين، والذي يدعي الشجاعة في حين ينتفض داخله خوفاً وجزعاً.. هؤلاء جميعاً يرتدون الأقنعة دون تعمّد منهم ودون أن يشعروا بذلك في أحيان كثيرة.
مسألة استخدام الأقنعة إذن ليست زيفًا كلها، فاختياراتنا للأقنعة فيها شئ من الصدق، إذ أننا لا نختار إلا الأقنعة التي تشبهنا أو تلك التي نريد أن نكونها، لذا تظل هناك دائماً علاقة بين كينونتنا الحقيقية وبين ما نبدو عليه في الظاهر، فالناس مع الوقت يصبحون ما يتظاهرون به إلى درجة أن يصعب عليهم هم شخصيا التفرقة بين حقيقتهم وقناعهم، ومن هنا كانت نظرية علم النفس عن بث الثقة في النفس عن طريق ترديد أقوال إيجابية عنها لمقاومة الإحباط الداخلي.. بمعنى أن ترتدي القناع حتى تصدقه أنت نفسك، وأن تلعب الدور حتى تتقمصه أنت شخصيا.
ويبدو أن الدنيا فعلا مسرح كبير، بل إن كلمة personality بمعنى شخصية، هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية persona، والتي تعني حرفياً قناع المسرح، فقد كان القناع في بداية تاريخ المسرح يستخدم كإكسسوار ومع تطور الفن المسرحي قام بعض المخرجين باستخدامه كأداة وتقنية مسرحية ترمي إلى تجميد وجوه وأشكال الممثلين بحيث يستطيع المتفرج النظر إلى داخل الشخصية وجوهرها، وليس إلى مظهرها الخارجي.
المفارقة هنا هي أن استخدام القناع في هذه الحالة كان يرمي إلى الكشف عن الحقيقة لا إلى إخفائها كما يظن٬ ما حدا بأوسكار وايلد إلى القول بأن القناع قد ينبئك بأكثر مما ينبئك به وجه الشخص الحقيقي.
أيا كان من أمر الأقنعة، فالحقيقة التي تعلمنا إياها هي ألا ننبهر بالصور المثالية التي يُصَدِّرها لنا الآخرون، وأن نعرف أن وراء كل قناع حكاية.. بل وقد تكون مأساوية وتدعو للرثاء أيضاً.. الأقنعة مثلها مثل أدوات ضرورية أخرى كثيرة في حياتنا.. استخدامها ليس شرا في حد ذاته، إنما طريقتنا وأهدافنا هي ما يسبغ عليها جدارتها وشرفها.