دنيا ماهر تكتب: لبنان.. خدني على بلادي.. فكلنا هنا غرباء

حجزت منذ وصولي في ضيعة صغيرة تدعى المشرف، على الطريق من بيروت لصيدا بمنطقة اسمها الدامور بعد الناعمة مباشرة يمين، لم يترك لي العمل وقتا للتجول في لبنان، لمحت قصورا على جبالها وبدايات تكدسات أحياء فقيرة، لكن تولد لدي شعور هائل أني قد عرفتها منيح، منيح بس مو كتير، كما يقول صديقي السوري المقيم مؤقتا.

وصلنا من القاهرة لمكان اقامتنا، أول استقبال لنا أعلنت مسؤولة المكان أنها خلقت شيعية- تنطقها بكسر الخاء- لكن ما عندها مشاكل مع السنة أبدا، يربكنا قليلا التصريح غير المتوقع، لكننا باركناه على أي حال لننهي الموضوع -إذا ما كان هناك موضوعا- واعتدلنا لنلتقي بثاني شخص لنا في هذا البلد والذي صودف أن يكون التقني المسؤول عن التصليحات ليسألنا: أين نعيش في مصر؟

تنوعت الإجابات بين القاهرة والأسكندرية ليرد السيد بـ : الحمدلله يعني.. كلنا هون مسلمين ما هيك؟

لم نفهم ما هي العلاقة بين السؤال والاستنتاج، كما لم نفهم لماذا بدأ يعظ فينا عن أن لا فارق بين المسلم والشيعي، وهكذا عرفنا مذاهب مرافقينا الدينية قبل أن نعرف أماكن المسرح وقاعة الطعام!

تفهم من الوهلة الأولى أن البلد مبتلى بالتمييز الطائفي وبالنية الصادقة في قلوب ساكنيه لمقاومة تبعاته، لكن بلا شجاعة حقيقية لتغيير الوضع بإجراءات فعلية.

لبنان بلد اختار تجاهل مشكلاته بالزقططة حولها والانتفاض زهوا على أنغام عالية وحلوة تليق بجبالها، فالتشرذم هنا ثقافة فرضتها الجبال ذاتها التي تفرض التعايش.

اتمشى في شارع الحمرا، تبدوا أغلب المباني من إنتاج السبعينيات، بداية الاختزال المعماري المذل للروح.. اطالع على الإنترنت صور الشارع القديمة واتحسر على المباني الرائعة.. كيف نقيس ما نخسره في الحرب من نتاج حضاري لا يمكن استبداله، فكل طريقة للمحاكاة تظل ظلا خائبا للذكرى الأصيلة.

لماذا شعرت بتلك الخيبة؟ هل كنت اتوقع حقا أن أجد بلدا لا تعاني من الفقر أو من التمييز؟ هل توقعت شوارع نظيفة يحترم بها المرور وبنية تحتية متكاملة؟ هل توقعت بلدا خال من مشاكلي؟ توقعات غير واقعية تؤدي للخيبة بالتأكيد.

بيروت في العام 2014 حافظت على مركزها الأول في تكاليف المعيشة والغلاء على مستوى الشرق الأوسط ، تليها دبي، رغم أن ما يقارب من 30% من سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر.. الكهرباء تنقطع يوميا في كل مكان لساعات طويلة وفواتيرها تحصّل مقدما بنظام شحن بالكروت، ولذلك بدأت الكثير من المباني بتركيب خلايا شمسية لتفادي الفواتير المرتفعة.

التعامل هنا بالدولار فعلا عاديا، ويأتي دخل لبنان الأكبر من تحويلات المهاجرين، فهي من البلدان القليلة التي يزيد عدد مهاجريها عن سكان الداخل بثلاثة أضعاف تقريبا، عادة ما ينشئ المهاجر اللبناني شركة عائلية تحقق النجاحات.

للبنانيين سمعة التجار الطيبة، يتميزون برؤيتهم في التجارة وإدارة وتنمية المشاريع الصغيرة.. لا يخشى اللبناني المخاطرة، ستجده في كل مكان مهما كان بعيدا، في أدغال أفريقيا وقرى أسيا وفي دواخل أمريكا الجنوبية.. ستجد عائلات لبنانية مستوطنة منذ مئات السنين، كما أجداده الفينيقين، لا يخاف اللبناني من الرحلة. هناك شيء في ثقافة اللبناني تجعله مسوقا عظيما بالفطرة، يقدم لك كل شيء بذوق شديد لا يخشى الاختلاف أو المواجهة.

قضيت الأسبوع اعمل مع صبايا وسيدات يعشن ويعملن بالمخيمات.. المخيم هنا كلمة معتادة ولا علاقة لها بالخيام.. سبع مخيمات كبيرة تتزايد مساحتها رأسيا، أكبرهم مخيم \”عين الحلوة\”، ويأتي مخيم \”نهر البارد\” في المرتبة الثانية.. أحياء عشوائية يسكنها اللاجئون، الذين لا يسمح لهم بالتملك أو بالانتماء للنقابات المحلية، مما يمنع عنهم حق العمل، وبالتالي الحياة ويصعب الانتماء.

أحياء تحيطها قوانين تجعل من اللاجيء المولود على أراضي لبنان يعيش غريبا إلى أن يموت.. يقول الشاب الفلسطيني: \”أنا لا أشعر بانتماء لهذا البلد.. لقد عزلونا في تلك المخيمات، ويكررون نفس الخطأ مع السوريين\”

أثرت الأزمة السورية على لبنان بشكل عنيف، ليس فقط لكثرة عدد اللاجئين الذي أدى لزيادة الأسعار والإيجارات وإغراق سوق العمالة بعمالة رخيصة لا تطلب الكثير، بل أيضا لأن سوريا لم تعد المكان المتاح لعامة الشعب للتنزه وقضاء العطلات.. كانت سوريا هي ملجأ فقراء لبنان للشعور بالحياة التي يعشقها اللبناني ويمنعه الفقر من التمتع بها كما يحب.

يبدو أن اتصال البلدين الذين كانا يوما بلدا واحدا أبدي وغير قابل للفصل رغم الخلافات التي تضخمها سرابات البحث عن هوية، دائما ما تجد تلك الحالة من الصراع الثقافي البارد الذي قد يتطور لصراع سياسي وربما مسلح بين بلدان العالم الأكثر تقاربا وشبها لبعضها (اليونان وتركيا، الامريكان والإنجليز، الهولنديين والألمان، الدول العربية وبعضها بعضا) فأنا هنا حين احكي عن لبنان، احكي عن الجميع.. كلنا متشابهون، ذلك التشابه الشديد الذي لا ينفي الخصوصية الثقافية، لكنه يصيبنا بالذعر لنتصارع لتوكيد تلك الخصوصيىة ونغالي في تعظيم الاختلاف، متعللين بالثقافة التي تتشوه من فرط تركيزنا على تثبيتها لتصير نسخة مقلدة ورديئة من كثرة التكرار الأجوف، ونتقمص مع الوقت الصورة التي نحرص على تصديرها للعالم.

نعيش كليشيه خال من أي خشوع كصلاة منافق، نصّدر للآخرين صورة لا توافق حقيقة حياتنا ولا تنقل التغيير الحقيقي الملموس في ثقافتنا، لكنها تعجب الآخر وترضينا، ككل الأفلام والبرامج التي نرى فيها مصريين ولبنانيين لا يشبهوننا في رحلة شوارعنا اليومية.. صورا لشعب ربما أجمل، لكنه ليس نحن، كصورتي في عقل أمريكي جاهل اعتلي جملا يجره رجلا متوحشا، أو كخيال لبنان في ذهني مليئة برجال في أناقة نيشان ونساء مايا دياب.

لم يكن في خيالي وجوه مغبرة كوجوه فقرائنا، مليئة بالصبر، ووجوه أخرى نافذة الصبر في \”عجأة\” لا تنتهي، تماما كالقاهرة.

لم يكن في خيالي عجائز وأطفال يحزنون خيالك بالتسول.. إنها تنويعة جديدة للقاهرة التي طرت منها طلبا للتغيير.. يبدو أن مدننا تلاحقنا فعلا كعفريت لا يمل، أو أننا متشابهون أكثر مما ينبغي.

لكن، وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية والمواجهات الأمنية والقلاقل السياسية وتراكيب المجتمع الطائفية، تبدو لبنان مستمرة بابتسامة احتفالية لا تتبدل، وطاقة لا تتبدد في صناعة الحياة.. لا اتخيل طريقة قد تعوق لبناني عن ممارسة العيش الممتع، حتى لو رميته بالنار، سيكتشف اللبناني ما في الاحتراق من مميزات ويرقص على أنغام هو وحده يستخلصها من الاشتعال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top