كيف يفعلونها؟ هؤلاء المجهولين في الشوارع الذين تراهم يرتدون ثيابا مكوية ونظيفة ويبدو عليهم الستر كما نقول؟
أنا أتذكر حرمان أسرتي لشهور من جهاز منزلي حيوي كالثلاجة أو التلفزيون الذي يعد مصدر أساسي للترفيه لأطفال أسرة كأسرتنا لم تحلم أبدا بإقتناء ما يلزم للإشتراك بنادي رياضي أو حتى التنزه خارج المنزل، لم يكن هناك بنود في الميزانية لأي نوع من الترفيه، لم يكن هناك بند في الميزانية لأي شيء غير أساسيات الحياة المقننة جدا، لذلك كنا حين يتعطل جهاز ما -عادة ما يحدث بسبب التغير المربك لتيار كهرباء تمدنا به شركة حكومية- فإننا ننتظر شهورا تكفي لنقتصد في الميزانية الضامرة أصلا، لكي نصلح حسب الظرف ما خرب بعد سنة أحيانا، وكنا نمشي مهندمين دائما، ونشتري كيس الشيبسي في فسحة المدرسة.
أستغرب حين تتحدث عن الأكل الذي يرمى، والإسراف، تلك الألفاظ التي لم يكن لها وجود في حياتنا، كل شيء كان محددا وواضحا، وقت إضاءة اللمبات والحد الأقصى للمبات المضاءة، عدد الوجبات بل والأرغفة، منابك من الفرخة الأسبوعية التي تختفي أحيانا في أوقات الإمتحانات لأن بند مجموعات التقوية يأكل الفرخة ويترك مكانها أرجل ورؤوس دجاج لإحكام وهم المرق.
لم يكن في حياتنا سوى التعليم، ذلك البند في الميزانية كان يجتاح ميزانية الأسرة بكل أريحية، فتأتي أولويته على بنود الفواتير والأكل، لم يكن لدينا ما نصرفه في بند آخر، ولما كبرنا وبدأنا نزن على الترفيه، كنا نذهب إلى رحلات مدرستنا الحكومية بعد أن أقنع والديّ أنفسهما أنها ضمن بند التعليم.
الآن، بعد مضي كل هذا الوقت أنظر للناس المهندمين حولي، وعلى وجوههم كل ذلك البؤس، وأتخيل بسهولة حجم الكآبة والإحساس بالزهق، كيف يعيشون؟ ما نوع السلع التي يشترونها وبأي رقابة وأي جودة؟ هل سمعتم عن الفراولة المصرية التي تسببت بإصابة مواطنين أمريكيين بفيروس كبدي وبائي؟ ماذا نأكل نحن؟ وماذا يأكل الفقير والأفقر؟ ما هي البنود التي يتخلوا عنها كي يبقوا على قيد الحياة؟ لقد انتزعت منا حقوق الترفيه والمتع عشرين سنة لتختفي بعدها حقوق أخرى كالمدرسة الحكومية الكفؤة أو حتى نصف كفؤة كالتي لحقت بفصولها فتعلمت فيها الرسم ووقفت على خشبة مسرح وتم تحميسي وتعليمي ورعايتي على أيدي معلمين حياتهم لم تكن أسهل وإنحراف بعضهم كان مبررا جدا.
ماذا سينتزع منا الآن؟ وكيف سنبقى على قيد الحياة ونحن نسمم يوميا ولا نجد حق العلاج؟ نحن المهندمون السائرون في شوارع المحروسة نسأل أبانا الذي يدعي أننا أبناء سفاح: ألا نستحق أي حق في الحياة ولا التعليم ولا العلاج ولا الأمن ولا العدل ولا لا ؟ هل يجب أن نكتفي بما نتنفسه وكسرة خبز من صندوق قمامة ونكف عن كل طموح أو رغبة ولو أولوية كالإحساس بالأمان، ناهيك عن الترقي والرفاهية التي لم تعد توجه مريب لمواطني العالم الذي نسعى للعيش خارجه وخارج الزمن وخارج المنطق كما تنشر دعاياتكم وتهدف.
ماذا تبقى لنفقده؟ ماء وجوهنا؟ لم يبق إلا الحياة نفسها فلتأمرنا للخروج والإنتحار جماعيا تأليها وتعظيما لفكرة نموت نموت ويحيا البؤس والتعاسة والخراب.
أبي الحقيقي الذي هو في السماء حاليا، اعتذر لي قبل وفاته إنه لم يقبل أن يكون لصا في شبابه وبكى، أتذكره صارخا على وردة لاعب المنتخب المصري لكرة اليد، قافزا للسقف من كرسيه وكانت عادته في التشجيع تتعدى كرة القدم، كان يشجع كل ما هو مصري ويتذوق الرسم وخطه حسن، كان عصبيا كرهته في شبابي لكن الآن وخصوصا في آخر خمس سنوات أعلم أننا كنا سنتوافق جدا في رؤيتنا لما يحدث، لاحقا هجر أبي الجرائد التي ورثتها منه، وفقد أي بواقي شغف أو حب للحياة، كنت لاحقا أسأله عن أي شخص، أي شخص في الحياة العامة فيقول بلا إهتمام، بقرف أحيانا وأحيانا بنصف بسمة ثقيلة: كلهم ولاد كلب خ***
كيف كان سيتصرف أبي الذي فقد كل شيء إلا حلمه لتعليمنا في موقف مشابه لموقفنا الآن؟ حين يكون لا فائدة للتعليم في وطن ضائع؟ حيث لم تعد الخمسين قرشا تكفي فول إفطار أربع أفراد، ولم تزد دخول الأسر المهندمة بنفس قيمة الغلاء أو حتى بما يقاربها، كيف كانت ستتصرف أمي التي أنكرت نفسها حرفيا لتعين على تحقيق ذلك الحلم ذلك الأمل بالترقي من خلال تعليمنا تعليما ظنه أهلنا جيدا لدرجة دفع حيواتهم من أجله، والتخلي عن العلاج والدواء والزاد من أجل تعليم الأبناء والحفاظ على أمانة مستقبل أولادهم، كيف كانت ستتصرف أمي؟ هل كانت ستتخلى عن بند التعليم من أجل البقاء على قيد الحياة؟ لا أظن، أظن أنها كانت ستنظم مظاهرات وقد تقتل أحدهم في سبيل ذلك، فأمي برج الثور وما أدراك بسيدات برج الثور!
وأبي الذي كان يحتفظ بالإيصالات ويكتب المصاريف كان سيرفع قضية على الحكومة التي لم يكن يثق فيها لكنه كان يأمل في ضمير القضاء، كان سيرفع الشكاوى ويسلك المسالك القانونية للتغيير، لكن كلاهما كانا سيفعلان شيئا ما.
أنظر حولي، زحام الوجوه المهمومة والمنذهلة، ويلح السؤال: كيف يفعلونها الآن؟! في وجه كل أم أتأمل أثار الخوف والقلق والمعاناة، في وجه كل أب ألمح إستسلام لألم من عجز عن مسؤولية حيوية لا يوجد لها بند في الميزانية، كسرة نفس حتى في الإبتسامات النادرة، والجميع.. أعني الجميع يعانون الشعور بالذنب.
أنا ممثلة، مهنتي تقتضي التأمل في عباد الله لقراءة النفوس واللحظة والدافع والإمكانية، وأستطيع الجزم أني أرى ألما كبيرا سوف يفيض، لم يظل شيئا ليتم إقتطافه، نحن فقراء فعلا.. فقر حقول كادت أن توصف بالبور، لكن قطيعا من العميان ما زال يرعى في بواقي الخشب، غير واعٍ بإقتراب هؤلاء الذي لم يعد في أياديهم ما يعطونه، هؤلاء الذين على وشك فقد كل شيء، وحتى يحدث ذلك… كيف سيفعلونها ويظلوا على قيد الحياة؟!