هل قاتلة أطفالها، سليمة نفسيا؟
هل المغتصب، سليم نفسيا؟
هل بائعة جسدها لمن يدفع، سليمة نفسية؟
هل المرتشي، سليم نفسيا؟
هل ركاب المترو وقت الذروة، أصحاء نفسيا؟
هل الآباء والأمهات الذين يقتطعون من ميزانياتهم الضئيلة من أجل الدروس الخصوصية لابنائهم، أصحاء نفسيا؟
هل الـ 80 تلميذا المكدسين في فصل مثل علبة الكبريت وأساتذتهم، أصحاء نفسيا؟
هل المذيعين في برامج التوك شو المسائية وجمهورهم، أصحاء نفسيا؟
هل رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومدمني اللايكات على مواقع، ادمنت اجتذاب الجمهور بأخبار من عينة \”فلانة تشعل مواقع التواصل، وفلان اغضب جمهور الإنترنت\”، أصحاء نفسيا؟
دعونا نعترف أننا نعيش في مجتمع من المرضى النفسيين، إذا لم نعترف بهذا، فلنواجه إذن مصيرنا التعس.
نحن مرضى نعيش في بلد مريض.
الفتاة ندى، التي \”أشهرت\” انتحارها منذ يومين، وحزن عليها من عرفها ومن لم يعرفها، حتى خيم الاكتئاب على أغلب رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، لأن الجميع شاهد صورا لفتاة تشع بهجة وحيوية، أثارت جدلا جديدا، بعد أن خرجت لنا من خلف الستارة، لتقول: وضحكت عليكم.. أنا عايشة مامتش!
هذه الفتاة، مريضة نفسيا طبعا – مثلنا جميعا- والحقيقة أنه ليس مطلوبا منا – كمرضى- أن نلتمس العذر لبعضنا البعض، فنحن مرضى مثلها.
كمريضة في مجتمع مريض، بكيت وعشت ليلة سوداء عندما قرأت خبر موت فتاة شابة يافعة، ثم اسودت الدنيا في وجهي تماما عندما عرفت من البعض أنها انتحرت.. دخلت كالمجنونة على صفحتها على الفيسبوك، وجدت \”بوستات\” لفتاة تعيش في مأساة! لا تتحدث إلا عن الموت.. لا تكتب إلا حكما تقتبس – أو بالأحرى- تسرق كلماتها من الشعراء وتنسبها لنفسها، مع تشويهها بلغتها الركيكة \”الخواف قواد فلا تخاف\”، عن \”الخوف قواد فحاذر أن تخاف\” لنجيب سرور، \”فنشنق رغبتنا الأخيرة فـ الحياة\”، مقابل \”اغسل قلبك منهم جميعا، واشنق رغبتك الأخيرة\”، ثم بوستات كثيرة عن الموت والفراق والفقد والانهيار والظلم.
هذه فتاة، تجهز إذن لرثائها، وجديرة بمراث معتبرة!
كمرضى في مجتمع مريض، انهرنا جميعا، على شباب الفتاة، وعلى عمرها الذي راح في بلد لا تقدر موهبتها – التي لم نعرفها كعازفة ناي- وعلى المستقبل الذي ينتحر أمام أعيننا ونحن عاجزون.. انفجرنا بكاء عندما قرأنا كلماتها المؤثرة.
كمرضى في مجتمع مريض، انتظرنا في اليوم التالي أن نشاهد أسرة الفتاة في إحدى برامج التوك شوك المسائية، لنبكي أكثر – هكذا تعودنا من معايشتنا للموت يوميا- لكن وقبل أن يأتي المساء، ظهرت ندى – التي عرفنا فيما بعد أن اسمها هند!- لتكتب \”بوست\” على الفيس بوك تقول في مستهله: \”أنا عايشة\”!
ياللا يا مجنونة!
ثم انقسمنا – نحن المرضى- بين متعاطف مع الفتاة، يصرخ: \”هو أنتوا زعلانين عشان طلعت عايشة؟! ما تحمدوا ربنا إنها عايشة\”، فيما صرخ القسم الآخر: \”اللي عملته ده عيب وقلة أدب وتزييف للحقيقة ولعب بمشاعر الناس\”، فيما غرد قسم ثالث خارج السرب: \”أهو ده اللي أخدناه من ثورة 25 يناير!\” أما القسم الأكثر تألقا، فكان ذلك الذي قال: \”اغلقوا مواقع التواصل الاجتماعي اللي جننت الناس\”، وهذا القسم الأخير لا يعرف – طبعا – أنه الأكثر جنانا ومرضا بين كل الأقسام.
للأسف.. ما سيحدث بعد قصة ندى عازفة الناي، التي أعلنت وفاتها على الفيسبوك، وأحيت نفسها من خلال نفس الوسيط، لن يكون مثل ما حدث قبله، ففي مصر تنتحر الكثيرات وهن وحيدات.. ينتحرن فعلا ولا نعلم عنهن شيئا.. لن يصدق الناس من سيكتب المراثي عن المتصدرات لمشهد الموت القادم، فقد انتهكت عازفة الناي جلال الموت، وحضّرتنا – نفسيا- لمواجهة الانتحارات القادمة بتبلد وبرود، فليسامحها الله ويشفها.
الحقيقة الأكيدة في كل ما سبق هي أن هذه الفتاة \”إدتنا كلنا على قفانا\”.. أيوووة.. حضرتك برضه أخدت على قفاك.. ما فعله العيان في الميت.. أو ما فعلته المريضة في مرضى أكثر منها.. لا متعة ولا إثارة، لكن فقط أذى وحزن وبؤس.. تعالوا نتعالج كلنا.